التعـذيب في السـجون الإسرائيليـة ... !!!

 

* بقلم / عبد الناصـر عوني فروانـة

17 تموز 2004م

 

     هناك دولٌ في العالم تشرّع قوانين من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان وتسعى لأن تكون نموذجاً على هذا الصعيد ، وهناك دولٌ أخرى تسعى لتطوير ممارساتها وأنظمتها بما ينسجم والمواثيق الدولية المتعلقة بذلك ، وهناك دولٌ كثيرة تنتهك وتتجاوز بعض تلك القوانين ، لكنها تتنصل من إنتهاكاتها تلك وتدعي الإلتزام …

 و في سياق تلك اللوحة نجد أنفسنا أمام  حالة إستثنائية ، بل و شاذة ، لأن الأمر مختلف تماماً حيث أن إسرائيل تمثل حالة فريدة من حيث ممارسة التعذيب قانوناً ما بين دول العالم ، و لا يوجد دولةٌ أخرى في العالم شرعّت التعذيب سوى إسرائيل ، بالرغم من أنه في عام 1986 وقعت إسرائيل على إتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب والتي بدأت بالتنفيذ الفعلي بتاريخ 26 حزيران عام 1987م ، وفي عام 1991 صادقت " إسرائيل " عليها ، وهذا يعني الإلتزام بـ " اتخاذ إجراءات تشريعية أو إدارية أو قضائية فعّالة أو أية إجراءات أخرى لمنع أعمال التعذيب في أي إقليم يخضع لاختصاصها القضائي" المادة الثانية البند الأول .

ويقصد 'بالتعذيب وفق ما جاء في المادة الأولى من الإتفاقية "  أى عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد ، جسديا كان أم عقليا، يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث ،على معلومات أو على اعتراف ، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في انه ارتكبه ،هو أو شخص ثالث أوتخويفه أو ارغامه هو أو أى شخص ثالث - أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأى سبب يقوم على التمييز ايا كان نوعه،أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص يتصرف بصفته الرسمية ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها " ، ويعتبرالتعذيب انتهاك أساسي لحقوق الإنسان ، وقد أدانه المجتمع الدولي كجرم يُرتكب في حق الكرامة الإنسانية، كما حرمه القانون الدولي تحريماً قاطعاً أياً كانت الظروف ، هذا  وقد ورد تحريم التعذيب في كافة الإتفاقيات والمواثيق الدولية والإنسانية .

وإسرائيل وبدلاً من اتخاذ الإجراءات القانونية والإدارية للتناغم مع نصوص ومضامين هذه الاتفاقيات ، فإنها تقوم بقراءة مغايرة لها من أجل انتهاكها بحجة الظروف الاستثنائية التي تحاول أن تتذرع بها دوماً كمبرر لإستخدام التعذيب ، وحتى هذا يشكل خرقاً فاضحاً للبند الثاني من المادة الثانية من الإتفاقية والذي ينص على ( أنه لا يجوز التذرع بأية ظروف استثنائية أياً كانت، سواء أكانت هذه الظروف حالة حرب أو تهديداً بالحرب أو عدم إستقرار سياسي داخلي أو أية حالة من حالات الطوارئ العامة الأخرى كمبرر للتعذيب ) ... والأخطر من ذلك أن أعلى جهة قضائية في اسرائيل أضفت الغطاء الشرعي والقانوني لتعذيب الأسرى الفلسطينيين والعرب وبذلك تتصدر دولة الاحتلال "الاسرائيلي" قائمة الدول التي تنتهك حقوق الانسان ، على الرغم من كل ما يشاع عن الديمقراطية " الاسرائيلية " المزعومة المغلفة بالعنصرية والتعصب ، فهي الدولة الأكثر إرهاباً في العالم والأقل إنسانيةً والأكثر انتهاكاً للمواثيق والإتفاقيات الدولية .

فإلى جانب الإبادة والقتل الجماعي والتهجير ومصادرة الأراضي والممتلكات وهدم البيوت وغيرها من الأساليب العنصرية، أقامت سلسلة من السجون والمعتقلات ، هي أشبه بمعتقلات جماعية قلما شهدها العالم إلا في معتقلات النازية والفاشية في أوروبا ، وهذه السجون والمعتقلات ليست مُعدةً ولا تصلح أساساً للبشر ، ويجري بداخلها أساليب تعذيب متقنة ومدروسة بعيدةٌ كل البعد عن الديمقراطية والإنسانية.

وشّكل التعذيب في السجون الإسرائيلية نهجاً أساسياً وممارسةً مؤسسيةً ، أي أنه جزء لا يتجزأ من معاملة المعتقلين في محاولة يائسة من سلطات الإحتلال بهدف كسر إرادة المقاومة والنضال .

ويبدأ التعذيب منذ لحظة الإعتقال فمثلاً عند إقتحام المنزل  يعبثون فساداً في أثاثه ومحتوياته  ، ويفتشون دولاب الملابس والمكاتب ، ويقومون أحياناً بضرب المعتقل أمام أهله ، وبعد الخروج من المنزل تُقيد يدا المعتقل إما بالحديد أو بقطعة من البلاستيك التي تسبب آلاماً شديدة و يعصبون عينيه ويضعون على رأسه كيساً رائحته كريهة لا يمكن الرؤية من خلاله ومن ثم يرموه الجنود في قاع سيارة عسكرية ، وفي الطريق إلى السجن ينهالون عليه بالضرب مستخدمين الخوذ الفولاذية وأعقاب البنادق والدوس عليه بأرجلهم  وشتمه بأقذر الكلمات.

وعند الوصول تقوم إدارة السجن بتفتيشه وأخذ ما بحوزته والطلب منه أن يلبس ملابس السجن وعادة ما تكون بالية وممزقة وبدون أزرار ورائحتها كريهة ومقاسها غيرمناسب ، ثم يأتي دورالممرض أو الطبيب الذي يحاول التأكد من الوضع الصحي للمعتقل وتوصيات الطبيب هنا مهمة جداً لرجل المخابرات لأنها تساعده في تحديد نقاط الضعف الصحية الموجودة عند المعتقل والتي يمكن استغلالها ، كما تحدد نوعية وطبيعة التعذيب المناسب لهذا المعتقل ، وإذا كان المجال لا يتسع هنا لعرض كافة أشكال التعذيب المستخدمة في أقبية التحقيق والتي وصلت الى  76 شكلاً ، إلا أننا نذكر بعضاً منها كما وصفها المعتقلون أنفسهم بعد تحريرهم ، حيث تتنوع أشكال التعذيب الوحشي بين الضرب الشديد والصـفع على المعدة والضرب على الخصيتين والتحرش الجنسي والإغتصاب والصعق الكهربائي والشبح لساعات طويلة والحرمان من النوم والطعام والشـراب و الهز العنيف و الحشر داخل ثلاجة  والحرق بالسجائر  … إلخ ، و يحدث التعذيب في أماكن سرية ومعزولة عن العالم الخارجي ولا يسمح خلالها للسجناء بالإتصال بمن يستطيع مساعدتهم وفي الكثير من الحالات يستمر هذا الحال لعدة شهور وقد تتجاوز ذلك الى سنوات وحتى ذويهم أو منظمة الصليب الأحمر الدولي يجهلون مكان وجودهم .

ولم تقتصر عمليات التعذيب على الشبان بل طالت النساء والشيوخ كما ولم  يسلم الأطفال أيضاً من التعذيب وتشير التقديرات إلى أن 95% من المعتقلين الفلسطينيين الأطفال الذين تم اعتقالهم تعرضوا للضرب  في حين أن 85% منهم تعرضوا خلال التحقيق  لأكثر من شكلٍ من التعذيب كما أن هناك الكثير من الأطفال يتم تعذيبهم أمام والديهم منذ اللحظة الأولى لاعتقالهم ، ويجدر الإشارة هنا أن أكثر من 2500 طفلاً إعتقلوا وزجوا في السجون خلال إنتفاضة الأقصى ، وعشرات أضعاف هذا الرقم من أبناء الأسرى الأطفال  يعانون من تأثيرات الإعتقال والتعذيب والحرمان من آبائهم  .

وترتكز أساليب التحقيق على الضغط النفسي أكثر من الجسدي والتي تهدف إلى تحطيم سلامة وشخصية المعرض للتعذيب ، لأن الآثار النفسية التي يتركها الضغط النفسي هي أبعد مدى من الآثار الناتجة عن الضغط الجسدي ،  لأنها تستمر لفترات أطول من الآثار الجسمية حتى إلى ما بعد الخروج من السجن كتذكر فترة التعذيب أو حتى نوبات الذعر  ، فالغرض الاساسي من التعذيب في السجون الإسرائيلية ليس إنتزاع الإعترافات فحسب ، بل وهدم الذات الفلسطينية والوطنية و تدمير الإنسان وتحطيم شخصيته ليكون عالة على أسرته ومجتمعه وعبرة لغيره  ، ليس هذا فحسب بل و يلحق التعذيب الأذى بأسرة السجين وأبنائه وحتى أصدقائه ومجتمعه وبآمال ومستقبل الأطفال .

ومهما حاولت "اسرائيل" خداع العالم بأنها دولة ديمقراطية في صحراء عربية قاحلة من المفاهيم الانسانية والحضارية والديمقراطية ، فإن الآلاف من المواطنين الفلسطينيين والعرب الذي ذاقوا مرارة العذابات في زنازين التحقيق سيبقون شواهد حية على كذب ديمقراطية دولة الإحتلال وادعاءاتها ، وإن وحشية التعذيب لايمكن وصفها أبداً فهي تفوق بمرارتها ما يتخيله العقل وما يمكن أن يخطه القلم فالمعاناة وآثارها أكبر من أن توصف .

كما ليس كل من تَعرض للتعذيب نجا من الموت ليحدثنا عما تعرض له ،  لكن هناك الكثير مِمَن نَجوا تحدثوا وبمرارة عما تعرضوا له ، وهناك من لا زالوا متأثرين من ذلك رغم مرور سنوات طوال على تحررهم ولا يتسع المجال هنا للحديث عن تلك التجارب والمعاناة .

وعلى سبيل المثال لا الحصر يقول أحد الأسرى الذين تعرضوا للتعذيب ( لم أتخيل في حياتي أن هناك " أناساً " من هذا القبيل يبتسمون وهم يراقبون عذاباتنا ويضحكون عندما أتقيأ من الألم ويتدهور وضعي الصحي ، وفضّلت الموت مرة واحدة على أن أموت عشرات المرات) … ويضيف أسيرٌ آخر  ( لا يسمحون لك بالذهاب إلى المرحاض وكثيراً ما نتبول في ملابسنا ولا نجد الإهتمام إلاّ عندما تبدأ الرائحة الخانقة في التسرب ) …  وأسيرة محررة تقول : ( يستخدم المحققون التعذيب النفسي مع الأسيرات بكثير من الأشكال منها التهديد بالشرف وخلع الملابس والتهديد بإحضار الأهل والتحرش الجنسي و أيضاً بتعذيب الأسيرات بالضرب المبرح بالهراوات وكذلك شد الشعر وإلقاء الأسيرة على الأرض وركلها بأقدامهم ركلات موجعة في كافة أنحاء الجسم وخاصة الرأس ) ... وطفلٌ يقول ( لم يرحموا طفولتي وإعتقلوني وأنا أحمل حقيبتي وذاهب لمدرستي فلقدأجبروني على الإعتراف والتوقيع تحت الضرب المبرح والتهديد على وثيقة باللغة العبرية ومكثت عشرة شهورٍ في السجن ولا زلت أتذكر تلك المعاناة وأعاني  من آثارها )  .

و قد أدى التعذيب في دهاليز الزنازين ومسالخ التحقيق كما يصفها المعتقلون الفلسطينيون الى استشهاد  العشرات منهم ، ونذكر هنا الشهداء ( يونس أبو إسبيتان ،عون العرعير ، محمد الخواجا ، خليل أبو خديجة ، عبد الصمد حريزات ، إبراهيم الراعي ، عطية الزعانين ، مصطفى العكاوي ، خالد الشيخ علي ، جمال أبو شرخ  ،خضر الترزي ،  سمير عمر ، معزوز دلال ... إلخ .

وقد جاء في تقرير نشرته منظمة العفو الدولية مؤخراً تحت عنوان " تجار الألم " أن دولة " إسرائيل "  هي أكثر الدول من حيث إنتاجها لوسائل تعذيب مختلفة وإستخدامها والإتجاربها مثل القيود ، السلاسل ، الأصفاد وكراسي التكبيل ومواد كيماوية تسبب الشلل مثل غاز الأعصاب ، الغاز المسيل للدموع والسموم المخدرة ، أجهزة الصعق الكهربائي.

هذا ولم تقتصر آثارالتعذيب على فترة التحقيق والإعتقال فحسب ، بل تستمر إلى ما بعد التحرر بسنوات أيضاً ، وهناك المئات استشهدوا بعد رؤيتهم شمس الحرية بسبب التعذيب وآثاره  ولا زال هناك الآلاف من الأسرى المحررين يعانون من أمراض نفسية وجسدية بالغة من جراء التعذيب ، وهؤلاء يحتاجون الى رعاية خاصة ، ومما جاء في دراسة بحث لنيل درجة ماجستير للأخصائي/ محمد الزير ( إن الأعراض والأمراض المزمنة والمستعصية والتي ظهرت وبدأت تظهر على الأسرى المحررين لها علاقة بصورة دالة إحصائياً بخبرة السجن والتعذيب ، لذلك جميع الأسرى المحررين بحاجة الى عمل فحوصات كاملة وبصورة دورية كل فترة بين الحين والآخر للتأكد من خلوهم من الأمراض ) ويحضرني هنا قول  الشاعر الدانمركي " هالفدان غاسموسن " في قصيدة له : " ليس التعذيب ما يخيفني ولا السقوط النهائي للجسد، ولا فوهة بندقية الموت ، أو الظلال على الجدار ولا الليل عندما تندفع نحو الأرض آخر نجمات الألم الشاحبة، إن ما يخيفني هو اللامبالاة العمياء للعالم عديم الرحمة فاقد الشعور"  .

وهذا الخوف هو الذي يعاني منه الأسرى المحررون فور خروجهم إلى الحياة، فهم يخافون من نسيان الناس لمعاناتهم في الأسر ولا مبالاتهم بما تعرضوا له من تعذيب جسدي ونفسي، لذا فمن الواجب الأساسي احتضان هؤلاء الأسرى المحررين بالشكل الذي يسمح لهم بإستعادة حياتهم الطبيعية ، وتأهيلهم وتطويرهم لدمجهم في المجتمع ، والكثير الكثير منهم كان ولا زال لهم دوراً قيادياً مميزاً على الخارطة السياسية وفي عملية بناء المجتمع ومؤسساته أيضاً ، ولا يسعني هنا إلاّ وأن أثمن عالياً دور وجهود وزير الأسرى والمحررين وكافة العاملين بالوزارة بدون إستثناء لما يولونه من إهتمام وما يقدمونه من خدمات للأسرى المحررين ، كما وأثمن دور كافة المؤسسات غير الحكومية التي تعنى بالأسرى المحررين وبضحايا التعذيب .

وفي الختام على المجتمع الدولي بكافة مؤسساته الحقوقية والإنسانية أن يفوق من سباته وأن ينظر قليلاً إلى ما يجري داخل السجون الإسرائيلية عامةً وفي مسالخ التحقيق خاصةً  من جرائم وأساليب تعذيب مميته ومحرمة دولياً ، وإنتهاكات فاضحة لأبسط حقوق الإنسان ولكافة المواثيق والأعراف الإنسانية الدولية  .

*  باحث مختص بقضايا الأسرى ومدير دائرة الإحصاء بوزارة شـؤون الأسرى والمحررين