سسيولوجيا تعذيب الأسرى في السجون

منقذ أبو عطوان

26-6-2005

 

اعتبرت السجون وسيله رادعة، وعقاب اليم، لكل من يتمرد ويثور أو يخرج على نظام وتقاليد القبيلة، أو الحاكم، أو الدولة (السلطة ) منذ القدم، فالمس بمصالح هذه السلطة، والخروج عليها اعتبر تمردا يشكل تهديدا لها ولأمنها، ويعاقب مرتكبيه، بالقتل أو النفي، أو العزل داخل السجن.

والسجون منذ نشوئها وتشييدها منذ فجر التاريخ، لم تكن سوى أدوات قهرية وقمعيه، تسعى إلى وقف حياة الإنسان، من خلال قتله جسديا ونفسيا، وهي شكل عقابي يفرض على كل من لا يلتزم، أو ينقاد لقوانين السلطة السائدة ساء كانت سلطة القبيلة أو سلطة طبقه على طبقه أو سلطه دوله أو سلطة احتلال.....الخ)، ولجوء السلطة إلى استخدام العقاب الصارم على كل من يتمرد ويثور على قانون هذه السلطة، يهدف بالأساس الحفاظ على هيبتها كسلطة حاكمه من ناحية وبغض النظر عن شرعيتها ومن ناحية أخرى الحفاظ على مصالحها ألاقتصاديه والسياسية لخدمة مشاريعها ألتوسعيه وبالتالي تسعى جاهده من اجل إحكام السيطرة بالقوة والعنف ( العقاب )على الفرد والمجتمع من اجل تحقيق هذه الأهداف.

وأدوات العقاب صاحبها تغيرات وتحولات، بشكل انعكاسي لتطور وتقدم القبيلة والعشيرة والدولة أيضا, بمعنى أنها تحولت مع تطور النظام الاجتماعي السائد، حيث اخذ العقاب أشكالا عدة منها العقاب ألمشهدي الذي يمارس من خلاله الحاكم عملية القتل أو تقطيع أوصال وتشويه المعاقب أمام الناس ليكون عبرة للآخرين, كما حدث مع قوم موسى عليه السلام، وفرعون حين امن الناس بموسى بعد إلقاء عصاه، وقوله لهم كما يقول القرآن الكريم "لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين "(سورة الأعراف:أية 124), وهذا النمط من العقاب ألمشهدي لا يهدف فقط إلى قتل أو إنهاء حياة المعاقب بقدر ما يشكل وسيلة عقابيه صارمة لمشاهدي هذا العقاب بهدف عدم تكرار الحدث نفسه.

وهذا النوع من العقاب (ألمشهدي) لم ينحصر في ثقافة دون غيرها بل كان منتشرا في بقاع مختلفة، وكانت الحكومات نفسها تستخدمه كأداة رادعه خاصة في أوروبا حتى بداية عصر النهضة, كما يظهر لنا مشيل فوكو في كتابه ألمراقبه والمعاقبة، الذي يصف لنا صورة أخرى من هذا العقاب ألمشهدي, من خلال ما حدث لداميان الذي تم سحبه وجرة وتقطيع أوصال جسده أمام الجمهور, ثم حرقه على جريمة قتل أبيه.

          وبعد حدوث ألثوره الصناعية وتطور المجتمعات وشيوع الديمقراطية خاصة في الغرب بالاضافه إلى تطور فروع العلوم الانسانيه المختلفة (علم النفس، علم الاجتماع...الخ ) شهد العقاب تحولات مختلفة من عقاب موجه للجسد إلى عقاب يمس روح (نفس ) هذا الجسد ،وهو ليس اقل سوءا من سابقه، ولكن تختلف آليات تطبيقه من مكان لأخر تبعا إلى تطور الإمكانيات التكنولوجية الساعية إلى إحكام السيطرة على الجسد وذاته، والتي يطلق عليها فوكو أيضا مجموعه من الآلام الأكثر رهافة والأكثر تبطينا، والتي تعتبر شكلا من أشكال إعادة الترتيب الأكثر عمقا للإنسان، بمعنى إنها تسعى إلى إحكام السيطرة والرقابة على ألفاعليه اعتبارا من الجسد الفردي إلى الجسد الاجتماعي (المجتمع ) في الخارج.

          إذا كان هذا شكل العقاب بكل صوره السيئة والصارمة تمارسه الدول الديمقراطية تجاه مواطنيها كما يصفه لنا فوكو، فكيف يكون شكل العقاب والياته التي تمارسه إسرائيل كدوله مستعمره تجاه الأسرى الفلسطينيين في سجونها ؟، والتي لا تعتبرهم غير مواطنين فقط ، وإنما تسعى جاهده من اجل نفيهم عن الأرض، والتخلص منهم بشتى الوسائل فهي لا تعترف أصلا بحقهم في الوجود على هذه الأرض، وللاجابه على سؤالنا السابق لا بد لنا أن نتطرق إلى كافة تفاصيل عملية الاعتقال (من البيت إلى السجن ) فهي عمليه عقابيه لا إنسانيه مستمرة وبأشكال مختلفة، وقبل ذلك يجب أن نميز بين السجون التي تحدث عنها فوكو في المجتمع الغربي، وبين سجون الاحتلال كما ميزها ووصفها روبرت يانج في كتابه أساطير بيضاء الذي ينتقد فيه الطرح الفوكوي (نسبه إلى فوكو) ورؤيته إلى السجون في المجتمعات الديمقراطية ويرى أن السجون التي بنيت في المستعمرات تختلف تماما عنها من حيث الهدف والغاية ، وأنها عبارة عن صوره أكثر سوءا وردائه لأنها تستنسخ نفسها بشكل رجعي مخيف، هذا الوصف الذي يرى فيه يانج السجون التي بنيت في المستعمرات بصوره مختلفة عن ما تحدث عنه فوكو، وبما أن موضوعنا ليس مقارنه بين طرح ميشيل فوكو وروبرت يانج ورؤيتهم  حول السجون إلى أنني فضلت الخوض بهذه العجالة البسيطة لأوضح لقارئنا العزيز خاصة الذين لم يجربوا الأسر شخصيا أو احد أقاربهم المقربين زيف الادعاء الإسرائيلي حول رفاهية السجناء (الأسرى) وان هذه الرفاهية حتى بشكلها البسيط ما هي إلا شكل من الأشكال ألعقابيه التي تمارس على الأسرى بهدف قتلهم من الداخل وتحويلهم إلى مجرد أشياء فارغة المحتوى وإخراجهم من حيز الفعل في التاريخ، خاصة ما يصاحب أللحظه الأولى لعملية الاعتقال من البيت وما يصاحبه من إدخال الخوف والرعب في قلوب الأهالي، حيث تتعمد سلطات الاحتلال (الجيش) إبراز القسوة والأجرام تجاه الأسير نفسه وأمام أبنائه وأهله، كما تتعمد في تقديم الإهانات واللكمات (الضرب) تجاه أفراد أسرة الأسير، قبل اختطافه من بيته كلمح البصر كما يفعل اللصوص، وهذه الأساليب اللا إنسانيه التي تتبعها سلطات الاحتلال حيال أسرانا وذويهم تهدف بالأساس إلى الحط من كرامة الأسير وذويه، وهادفين أيضا من ذلك خلق صراعات داخليه في نفس الأسير تسعى إلى أضعافه وتسهيل عملية الانقضاض عليه في غرف التحقيق والتي تعبر مسرحا يمارس فيه كل أصناف التعذيب ألمشهدي والروحي (النفسي ) اللا إنساني والمخالف حتى لقيم الحيوان قبل التدجين، فلا تتوانى سلطات الاحتلال من استخدام الضرب المبرح للأسرى، وإطفاء أعقاب سجائر في أجسادهم، وربطهم من الخلف إما على كرسي صغير الحجم أو على بلاطة متحركة بهدف إرهاق العامود الفقري للأسير وإعيائه، والشبح لساعات طويلة بل لأيام، إلى جانب استخدامها أساليب الهز العنيف للرأس الذي يؤدي إلى إصابة الأسير بالشلل أو إصابته بعاهة مستديمة أو قد يؤدي للوفاة كما حدث للعديد من الأسرى، بالاضافه إلى أساليب أخرى تبتدعها وتستحدثها في تعذيب الأسرى بهدف تحطيمهم جسديا ومعنويا.

 هذه الأساليب ألقاتله التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيين لا تمارس فقط من قبل السجان وحده بل بغطاء وبمشاركة ما يسمى بالقضاء الإسرائيلي الذي يعطي شرعيه لاستخدام هذه الممارسات ألوحشيه والإمعان فيها، إلى جانب مشاركة الطبيب والحارس والطباخ وحتى عابر السبيل (السجناء اليهود المدنيين) جميعهم يمارسون التعذيب والقتل بحق الأسرى الفلسطينيين داخل هذه الغرف ألمغلقه (غرف التحقيق) دون مراقبة أو حتى تدخل منظمات دوليه ومؤسسات حقوق الإنسان ليس فقط في فلسطين بل في العالم اجمع، وكأن هناك اتفاقا غير علني يبرر استخدام هذه الوسائل ألعقابيه بحق الأسرى، وبالتالي فان ما تستخدمه إسرائيل من وسائل تعذيبية يهدف إلى النيل من الجسد بكل أشكاله بل في صور أكثر فظاعة لما كان يحدث في العصور الأولى من الحضارة الانسانيه.

وسلطات الاحتلال لم تتوانى في إعادة إنتاج وتطوير وسائل التعذيب والقمع بحق الأسرى الفلسطينيين فعمدت إلى استخدام آليات تعذيب قاسيه تنال من روح (نفس) الجسد تتمثل في سياسة التعذيب الناعم والخفي (كافة أصناف التعذيب الغير جسديه والتي تنال الروح والفكر للأسير) بهدف إحكام السيطرة على جسد الأسير تمارس منذ بدء عملية الاعتقال مرورا بما يسمى مرحلة التحقيق إلا أنها تبرز بشكل أكثر وضوحا بعد نهاية هذه ألمرحله، أي بعد دخول الأسير غرف السجن أو المعتقل، فمصلحة السجون أو إدارة المعتقلات لديها مخزون ثقافي هائل من الأساليب اللا إنسانيه وتمارسها على الأسرى علنا ودون أي تحفظ أو خجل كما جاهر بذلك موشي ديان وزير حرب الاحتلال في السابق حين أعلن في احد تصريحاته، ووعده للمعتقلين الفلسطينيين بتحويلهم في السجن إلى حطام كائنات لا تمت للبشرية بأي بصله، وهذا يوضح الاتفاق بين مجمل مؤسسات ألدوله الايديولوجيه لدى الاحتلال ومؤسسة الجيش خاصة ما يسمى بمؤسسة القضاء الإسرائيلي على استحداث أنجع الوسائل التعذيبية التي تسعى للنيل من الأسير الفلسطيني جسديا وفكريا ونفسيا واجتماعيا أيضا من خلال ممارسات مختلفة تعتمد في الأساس على نهج الحرمان والقلة والطرد الاجتماعي.

الحرمان أي حرمان الأسير من رؤية وملامسة أهله وأبنائه، والحرمان من النوم والمطالعة ولقرائه والدراسة كما هو يريد وليس كما تريد مصلحة السجون، والحرمان من ممارسة حياته كانسان اجتماعي ومن التعامل معه كإنسان له الحق في الحياة، والحرمان من المثول أمام محكمه حقيقية تتعامل معه كأسير حرب يناضل من اجل الحرية والاستقلال، وليس محكمه صوريه تنطق حكما عسكريا صدر سابقا من مخابرات الاحتلال تتعامل معه كشخص إرهابي مجرم، الحرمان من الاستحمام ومن استخدام المراحيض والاستعاضة عنها بسطل (جردل) يقضي الأسير به حاجته من وراء حجاب ( بطانية معلقه ) تنبعث منه الروائح الكريهة في كل أنحاء الغرفة أو الخيمة والحرمان من الدواء والخدمات صحية ألعلاجيه، حيث كان الإهمال الطبي والصحي المتعمد من قبل إدارة السجون سببا في استشهاد العشرات من الأسرى الفلسطينيين، الحرمان من كل وسائل الحياة التي تحافظ على إنسانية الإنسان كإنسان وليس مجرد رقم في قائمه يتم تغيره وتجديده حسب مزاج إدارة السجن.

أما القلة فحدث عنها ولا حرج، فالقلة في الطعام من حيث الكم والكيف هذا الطعام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يصلح أساسا كطعام لآدميين وإنما يساعد فقط في استمرار حياة الأسير بشكل منغص، والقلة في حيز المعيشة للأسرى، حيث يتكدس الأسرى داخل الغرف، فالغرف ألمعده لاستيعاب عشرة أشخاص يصبح فيها خمس وعشرون، القلة في مساحة مكان النزهة (الفوره) والتي يطر فيها الأسرى للحركة بشكل دائري مما يسبب لهم إرهاقا خاصة في الدماغ نتيجة عدم ثبات ألقطبيه للمجال المغناطيسي، والقلة أيضا في الهواء حيث عمدت سلطات الاحتلال على وضع ألواح من الزينكو والاسبست على الشبابيك ألصغيره التي لا تكفي أصلا لتهوية الغرف وإضافة هذه الموانع الهوائية بهدف التحكم حتى في كمية الهواء للأسرى، والقلة في الوقت المحدد لزيارة المحامي والأهل ولقاء مندوب الصليب الأحمر، كذلك في كتابة المراسلات وووو الخ.

أما أساليب الطرد الاجتماعي التي تمارسه سجون الاحتلال فهي منوعة وعديدة، وأهمها سياسة العزل الانفرادي التي تتخذه عقابا للأسرى الذين ساهموا في نشاطات نوعيه قبل اعتقالهم، أو حتى على نشاطات داخل السجن، فهذه السياسة (الطرد الاجتماعي) والمتمثلة بالعزل الانفرادي تهدف من ورائه سلطات السجون استنهاض التناقضات ألداخليه في نفس الأسير كالإيحاء له بان من يعيش العزلة هو أنت وليس مجتمعك أو من ناضلت لأجلهم، ووسائل عقابيه عديدة تمارس بحق الأسرى بهدف إفراغ المناضل الفلسطيني من محتواه الإنساني وتحويله إلى مجرد شيء، يشكل عبئا على نفسه وأهله ووطنه، فالسجن يسعى من خلال هذه الأساليب الثلاث ألسابقه إلى عزل الإنسان عن محيطه وتحويله إلى جسد طيع مفرغ من مضمونه الإنساني، ليعيد تشكيله السجان لما يخدم مصالحه وتوجهاته على شكل عقاب رادع لكل شخص آخر يحاول تكرار الفعل الذي أدى للعقاب، فالسجن في المفهوم الإسرائيلي ليس وسيله للعقاب فقط وإنما أداة قتل وتصفية للروح الثائرة لدى الأسير الفلسطيني ليتحول من مجرد إنسان إلى رقم لا قيمة له محطما ومدمرا بلا قناعة وبلا إنسانية أو كرامه وهذا ما تسعى له سلطة الاحتلال في معاملتها للأسرى الفلسطينيين.

ورغم تنوع أساليب القهر والقمع والقتل التي تمارس بحق أسرانا، ورغم تكالب مؤسسات التبرير والتشريع والتأييد (القضاء، السياسيين...الخ) مع سلطات جيش الاحتلال في تنفيذ العقاب والتعذيب للأسرى بهدف إفراغهم من مضمونهم الوطني وإخراجهم من مسرح التاريخ كفاعلين، إلا أن هذه الجهود باءت بالفشل وتحطمت هذه المخططات على صخرة صمود وتوحد الأسرى في مواجهة هذه العنجهية ألعنصريه، بفضل امتلاكهم الوعي الحقيقي لطبيعة دورهم في النضال من اجل التحرر من العبودية المتمثل بالاستعمار وإيمانهم النابع من عدالة قضيتهم كقضية إنسانيه بالدرجة الأولى، رغم تخلي المؤسسات الدولية الحقوقية منها والإنسانية عنهم.

وأخيرا إن ما يتعرض له الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال من قتل وتعذيب وقمع وقهر وحياة مأساوية نتيجة خضوعهم لعملية إعادة إنتاج مخططه ومبرمجه تستهدف النيل من وجودهم الإنساني عبر المؤسسات ألقمعيه ، والايديولوجيه الصهيونية ، ومن خلال أجهزة ألدوله المختلفة والمتمثلة بالسجون التي تسعى إلى إعادة تشكيل الأسير الفلسطيني المقاوم تحت تأثير القوه والعنف الجسدي لإعادة إنتاج قيم ومفاهيم جديدة  بهدف إعادة ترتيب أكثر عمقا للأسرى ، لتتمكن من بسط سيطرتها على جسد المعتقل وامتداده الخارجي ، وبشكل عام فان هذه الوسائل العقابية التي تتبعها سلطات الاحتلال تهدف إلى ترك آثارا في داخل نفوس الأسرى، لما لذلك من آثار على المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه الأسير خارج السجن ، معتقده  أنها تستطيع إحكام السيطرة والهيمنة على كافة شرائح المجتمع الفلسطيني على اعتبار أن هذه الإجراءات والانظمه الانضباطية المفروضة على الأسرى تعني السيطرة والرقابة على الفاعلية اعتبارا من الجسد الفردي إلى الجسد الاجتماعي للأسير في الخارج سواء كانت أسرته أو حزبه أو تنظيمه.

وان ما يتعرض له الأسرى  المناضلين في ظل وجود ديمقراطيات تدعي الحرية والمساواة، وتدعي حماية حقوق الإنسان وتدافع عنها، و صمت هذه الديمقراطيات وإغماض عيونها حيال ما يجري لأسرانا الإبطال ليعتبر وصمة عار وندبة مخزية على جبينها، ولعنة تلاحقها أينما حلت لخذلها وتنصلها عن المبادئ الانسانيه والتي تنص على توفير الأمن والحماية للأسرى مناضلي الحرية والاستقلال، فالسجن ليس لهم ولا العزل وإنما هم أعلام شامخة وشموع مضيئة في ليل العتمة التي تفرضه سلطات الاحتلال.

 

 

* مدير شؤون الأسرى والمحرري / الخليل