في يوم المرأة العالمي

من هي الأسيرة المحررة التي أطلقت النار تجاه "أنطوان لحد".؟

 

بقلم / عبد الناصر عوني فروانة

أسير محرر ومختص بشؤون الأسرى

8-3-2019

 

لقد ظهرت المرأة العربية في صور متعددة، وحققت نجاحات باهرة وإنجازات عظيمة في مجالات مختلفة، وكان لها دوراً رئيسياً في المجال السياسي والاجتماعي والنضالي. وسجلت حضوراً لافتاً في مجالات كُثر. وشاركت الرجل في همومه الحياتية والنضالية، ومارست حقها في مقاومة الاحتلال وبطشه بكافة أشكالها بما فيها المقاومة المسلحة والعمليات الاستشهادية. مما جعل منها مفخرة لكل عربي حُر.

ويصادف اليوم الجمعة الثامن من آذار/مارس، يوم المرأة العالمي، حيث يحتفي العالم بالمرأة أينما وجدت، تقديراً لها، وتكريماً لدورها، ووفاءً لتضحياتها، وتأكيدا على حقها في النضال من أجل انتزاع حقوقها المسلوبة والعيش بحرية وكرامة. مما يدفعنا لأن نقف أمام عظمتها ونقدم لها شيئاً يليق بمكانتها ومقامها، حتى ولو كان هذا الشيء بضعة كلمات.

وفي مثل هكذا مناسبة تتعدد المقالات وتتنوع التقارير التي تتحدث عن المرأة وأوضاعها، وننحاز نحن الفلسطينيون كثيراً للحديث والكتابة عن المرأة المناضلة، المعطاءة والمضحية، الصابرة الوفية والمقاومة الصامدة، فنختار بعض الكلمات كل حسب قدراته الكتابية، ونخطها وفاءً وتقديراً لهن، لأننا وببساطة شعب عانى ويعاني ظلم الاحتلال وقهره، فننحني إجلالاً للشهيدات ونرفع القبعات تقديراً للمناضلات، ونعشق المقاومات كعشقنا الأبدي لفلسطين، وسنبقى أوفياء لمن انتهج المقاومة سبيلاً وامتشق السلاح وسيلة لدحر الاحتلال عن الأراضي الفلسطينية والعربية. وهن كثيرات، وهذه هي واحدة من المناضلات العربيات اللواتي نفتخر بهن.

"سهى بشارة" مناضلة لبنانية تُعرف بلقب "زهرة الجنوب"، وهي واحدة من أولئك النساء المناضلات والصابرات، اللواتي عشقن المقاومة وخضن النضال، فاعتقلت وأمضت عشر سنوات طوال في سجون الاحتلال الإسرائيلي وأعوانه.

اسمها تردد كثيراً لمسامعناً، وحفر عميقاً في أذهاننا وبقيّ راسخاً في ذاكرتنا منذ ثلاثة عقود من الزمن، وحُجز له مكانة متقدمة في سجل المقاومة والعمل الفدائي، ونحن كفلسطينيين نفخر بالشعب اللبناني الشقيق ونعتز بعلاقتنا التاريخية به. ونحن ننتمي إلى أمة تعشق المقاومة اللبنانية ودورها في التصدي للاحتلال ودحره.

ولدت المناضلة اللبنانية "سهى فواز بشارة"، في بلدة دير ميماس بالجنوب اللبناني بتاريخ 15حزيران/يونيو1967، و تربت في عائلة شرقية أرثوذكسية، كانت تقيم مع أسرتها في الجنوب وتعلمت حب الوطن من والدها الثائر "فواز". والتحقت بصفوف جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في منتصف ثمانينات القرن الماضي، واعتقلت بتاريخ 7تشرين ثاني/نوفمبر1988 بعد محاولتها قتل العميل "أنطوان لحد" وهو ضابط لبناني تولى قيادة ما يسمى جيش لبنان الجنوبي الموالي لإسرائيل 1984، لتمضي في سجن الخيام عشر سنوات، دون حكم أو محاكمة. وكانت هي الأقسى في مسيرة حياتها قبل أن يُطلق سراحها بتاريخ 3أيلول/سبتمبر1998. وقد أصدرت عام 2003 كتابا بعنوان "مقاومة" يحكي عن حياتها قبل وبعد الاعتقال. وفي عام 2011 قامت بنشر كتاب آخر بعنوان: أحلم بزنزانة من كرز. وهو كتاب سيرة ذاتية أيضاً كتبته مُشاركةً مع الصحفية اللبنانية "كوزيت إلياس إبراهيم" التي كانت أيضاً مُعتقلة في معتقل الخيام.

لقد التقيت بالمناضلة الهادئة "سهى بشارة" عدة مرات في سويسرا حيث تقيم هناك منذ سنوات في إحدى ضواحي مدينة جنيف/ سويسرا مع أسرتها الصغيرة. وبرغم اقامتها البعيدة عن لبنان إلا أن سويسرا لم تبعدها عن هموم الشارع العربي وقضاياه. كما وأن الحياة في سويسرا لم يُنسيها لبنان "الوطن الأم"، وتجربتها المريرة في الاعتقال وآثار معاملة السجان وألم القهر والحرمان في سجن الخيام. ولم يُنسيها الظلم التاريخي الذي تعرض له الفلسطينيون من قبل الاحتلال الإسرائيلي، فتجدها تنشط هناك وتشارك هنا وتتحدث هنا وهناك وفي كل مكان عن قضايا أمتها وحقوق شعوبها وخاصة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة ومقاومته المشروعة للاحتلال الإسرائيلي.

وفي المرات التي التقيت فيها بالأسيرة المحررة "سهى بشارة"،  استمعت إليها بشغف شديد وهي تتحدث عن المقاومة الباسلة وعملها الفدائي الجريء، وتروي لي بمرارة تجربتها مع الأسر في سجن الخيام، وظروف احتجازها وسوء الأوضاع الصحية والاهمال الطبي وبشاعة معاملة السجانين والسجانات لهن، وكيف أمضت نحو ست سنوات في زنزانة انفرادية في السجن المذكور، فتقول:

"اعتقلت عام 1988 وأمضيت عشر سنوات في سجن الخيام، مكثت ثلاثة شهور في التحقيق، تعرضت خلالها لأبشع أشكال التحقيق واقساها، ولصنوف بشعة ومؤلمة وقاتلة من التعذيب الجسدي والنفسي والضرب والجلد في كافة مناطق الجسم، وبشكل خاص في المناطق الحساسة، كما تعرضت للصعق الكهربائي مرات كثيرة، وهو الأسلوب الذي كان الأكثر استخداماً".

وتصف سجن الخيام بأنه كان عبارة عن أربعة أقسام، منها قسم خاص بالأسيرات، وبجانبه قسم الزنازين، وبين تلك الزنازين كان يوجد زنزانتان للعملاء، ذكوراً وإناثاً، "العصافير" للإيقاع بالمناضلين عبر الخداع.

وتشبِّه بشارة السجن المذكور بأنه حظيرة دجاج، فتقول: "تدخل ويرمون لك فتات الطعام، ولا تعرف متى الخروج وكيف".

تقول سهى بشارة: "بأن الصليب الأحمر دخل السجن للمرة الأولى عام 1995، أي بعد افتتاح السجن بعشر سنوات، وقد كان دخول الصليب الأحمر بهدف إنشاء صِلَة للأسرى مع الأهالي، ووقتها – فقط- عرف أهلي بأني موجودة في السجن، وسُمح لهم بزيارتي، ومن الجدير بالذكر أن كثيرا من أهالي الأسرى كانوا قد افتتحوا بيوت عزاء لأبنائهم، قبل أن يعرفوا بأنهم أحياء في سجن الخيام، حيث يتضح من ذلك كم كان هذا السجن - طوال عشر سنوات - مغيبا عن العالم الخارجي".

ويقع "سجن الخيام" على تلة مرتفعة، ضمن بلدة الخيام في أقصى الجنوب اللبناني، المطلة على شمال فلسطين ويتألف من أربعة أقسام، تحتوي على أكثر من 67 زنزانة جماعية، و20 زنزانة فردية. وقد اتسعت شهرة هذا السجن بسبب قسوة ظروف الحياة فيه، وشدة جرائم التعذيب التي ارتكبت بداخله، ضد الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين، لدرجة أن بعضهم أصابته الأمراض المزمنة، كما استشهد بداخله العديد من الأسرى اللبنانيين، من شدة التعذيب، منهم على سبيل المثال: صبحي علي شكر، و زكريا محمد نظر، وعلى عبد الله حمزة، وإبراهيم فرحات، وأحمد ترمس، وحسين فياض محمود، وإبراهيم أبو عزة، وبلال كمال السلمان، وأحمد نمر بزي، وهيثم فؤاد دباجة.

لكن ما يُثلج صدورنا اليوم هو أن السجن، لم يعد سجناً، فبفعل المقاومة التي تمكنت من دحر الاحتلال الإسرائيلي وأعوانه وتحرير الجنوب اللبناني في آيار/مايو عام 2000،  فتحت أبواب السجن وحُرر من كانوا يقبعون فيه ومن ثم تحول إلى "مزار".

رحل الاحتلال مرغماً، وغادر الجنوب اللبناني مجبراً، تاركاً سمعة سيئة وصور مؤلمة لدى اللبنانيين والفلسطينيين الذين دخلوا ذاك السجن وعانوا مرارته وذاقوا قسوة الحياة بين جدرانه.

لقد تشرفت بزيارة لبنان مرارا، ودخلت سجن الخيام أكثر من مرة بعد ان تحول الى "مزار"، ورأيت بأم عيني الزنازين الضيقة وصناديق الصاج واستمعت الى أسرى محررين وهم يروون حكاياتهم مع السجن. كم كانت قصصهم مرعبة.!

وبالرغم أن قوات الاحتلال الإسرائيلي قصفت السجن المذكور خلال حربها على لبنان صيف عام2006، إلا أن معالمه الأساسية ما زالت قائمة، وأن زنازينه التي كانت الأكثر قسوة ما زالت هي الأخرى موجودة، كما هو الحال بالنسبة لزنازين سجن غزة المركزي وسط مدينة غزة الذي ما زالت أطلاله تذكرنا بالأيام والسنوات المريرة التي عشناها بين جدرانه. سجون متشابهة، وتجارب مريرة تتقاطع بشكل كبير مع تجارب أسيراتنا في سجون الاحتلال المقامة فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة.

واليوم وبمناسبة يوم المرأة العالمي لا يسعنا إلا وأن نسجل جل احترامنا وتقديرنا للمرأة العربية بشكل عام، وللأسيرة المحررة "سهى بشارة" بشكل خاص ولكل المناضلات اللواتي ذقن مرارة السجن في سياق مقاومتهن للاحتلال.