حكايتي مع السجن الإسرائيلي

 

 

 

بقلم / عبد الناصر عوني فروانة

رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى

عضو اللجنة المكلفة لادارة شؤون الهيئة في قطاع غزة

3-3-2018

 

 مخطئ من يعتقد أن مرور السنون والعقود يمكن أن تمحو صورة قاسية انطَبعت في ذهن طفل تعرض لحادث يفوق قدرته على التحمل، وما يصطلح على تسميته بـ (الصدمة)، والصدمات النفسية في الصغر لا تُمحى. تلك التي عادة ما تكون ناتجة عن أحداث مؤلمة بشكل كبير مرّ بها الطفل نفسه أو تعرض لها شخصياً، وقد تكون نتيجة مراقبة لأحداث كبيرة شاهدها الطفل أو راقبها. هذا ما حدث معي، وهذا ما حصل مع أخي، وهذه حكاية أسرتي مع السجن الإسرائيلي.

ففي مثل هذا اليوم الثالث من آذار/مارس 1970 بدأت معرفتي بالسجون الإسرائيلية، حينما اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي والدي (عوني فروانة-أبو العبد)- أدام الله له الصحة والعافية وأطال عمره - ، بتهمة الانتماء لـ "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ومقاومة الاحتلال، وزجت به في سجونها لأكثر من خمسة عشر عاماً متواصلة قبل أن يتحرر دون أن يُكمل مدة محكوميته، وذلك في إطار صفقة تبادل الأسرى الشهيرة عام 1985، التي تُعتبر الأكثر زخماً في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، والأكثر روعة من بين عشرات صفقات التبادل التي نُفذت على الصعيدين العربي والفلسطيني. وإذا كان التاريخ الفلسطيني يُسجل ذاك اليوم الذي أنجزت فيه الصفقة بفخر وعزة، وهذا ما يجب أن يؤرخه المؤرخون، فإن الذاكرة الشخصية تحفظه بسعادة منقطعة النظير، كيف لا ووالدي واحد من أولئك المحررين، وأن تلك الصفقة جمعتني ولأول مرة مع أفراد الأسرة على مائدة واحدة، وهي التي مكنتّني بعد غياب طويل من احتضان والدي دون قيود وبعيدا عن مراقبة الجنود في لقاء مفتوح دون تحديد للوقت أو الزمن. وهي المرة الأولى التي أتذكر فيها احتضان والدي، الذي شكّل لي على الدوام مفخرة ونموذجا يُحتذى، في المقاومة والنضال، وقدوة في الصمود والصبر والسلوك المثالي والأخلاق الحميدة والعلاقات الوطنية الواسعة، ومنه تعلمت ابجديات النضال وحفظت مفردات السجن والتصقت أكثر بقضية الأسرى.

في مثل هذا اليوم، وقبل ثماني وأربعين سنة اعتَقَلَت قوات الاحتلال الإسرائيلي والدي، ولم يكن عمري قد تجاوز الثلاث سنوات، والحكاية بدأت فصولها في منتصف ليلة هذا اليوم الثالث من آذار/مارس عام 1970 حينما داهمت قوات الاحتلال المدججة بالسلاح حي بني عامر خلف مدرسة الزهراء بمحلة الدرج شرق مدينة غزة، ذاك الحي الذي نشأت فيه، وأفتخر بأنني تربيت بين جدرانه ووسط سكانه الذين أعتز بجيرتهم، وأفخر بصحبتهم ورفقتهم، واقتحمت بيتنا القديم لغرض ارهابنا وتخويفنا، بل وبث الرعب في نفوسنا ولدى كل المحيطين بنا، وحينها كنت طفلاً صغيرا، أتعلم نطق الحروف العربية وأهجي كلمات اللغة، ولم أكن قد تعرفت بعد على أبجديات الاحتلال، فطُبعت صورهم المتوحشة قسراً في أذهاني، ومن ذاك اليوم والصورة بكل ملامحها وتفاصيلها عالقة في وجداني وماثلة أمام ناظري، تُلازمني وتُصر على البقاء والتجذر عميقاً في ذاكرتي وترفض الرحيل الأبدي، أو حتى لمجرد المغادرة المؤقتة.!

وعلى الرغم من مرور (48) عاما على اعتقال والدي، وصغر سني حينذاك، إلا أنني ما زلت أتذكر المشهد جيداً وأروي تفاصيله بالكامل وطريقة اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي المدججين بالأسلحة والرشاشات بيتنا الصغير في تلك الليلة، وركلهم لنا ونحن نياما بأقدامهم وأعقاب بنادقهم، لنستيقظ أنا ووالدتي وأخواتي على وجوه الجنود المتوحشة، الذين أخذوا يفتشون ويكسرون ويحطمون، وسط اصوات الهلع والخوف وموجات الرعب التي اندلعت بالحارة كلها، ودموع أمي وبكائها، بالرغم من أن قوات الاحتلال كانت قد اعتقلت والدي من مكان عمله في حي التفاح شرق مدينة غزة في وقت سابق من نهار ذاك اليوم.

وفي اليوم التالي ومع بزوغ الشمس حملتني أمي في حضنها وبين ذراعيها تبحث عن والدي، ومن ثم أخذت تنقلني معها -رغما عنها وعني- بين السجون الإسرائيلية حيثما يكون الزوج والأب متواجداً، فبدأت علاقتي بالسجون الإسرائيلية ومعرفتي بها وحفظ أسمائها ومواقعها.

ذاك المشهد لاقتحام بيتنا ما يزال ماثلا في ذهني، ولم تستطع السنوات والعقود محوه أو إزالته، وهو ذاته وما أضيف له من مشاهد لاحقا جراء السجن والاعتقال، هو ما يدفعنا للالتصاق طواعية أكثر فأكثر بمقاومتنا المشروعة للاحتلال وقضايا الأسرى العادلة. فيما الذاكرة لم تسعفني يوماً من استحضار الفترة التي سبقت اعتقال والدي، أو حتى استحضار دقائق معدودة وهو يداعبني خلالها، أو حتى لحظات محدودة وأنا في حضنه وهو يقود دراجته النارية التي نفذ من خلالها عملياته الفدائية ضد جنود الاحتلال. بل واستجديت الذاكرة مرارا لاستحضار مجرد مشهد واحد، أو حتى لصورة تجمعني به هنا أو هناك وهو يداعبني ويقبلني في طفولتي. ولكن لم يحدث شيئا مما تمنيناه..!

فالصورة الأولى المطبوعة في ذاكرتي هي تلك التي جسدها الجيش المتوحش المدجج بالسلاح اثناء مداهمة بيتنا، وطفولتنا بدأت بذاك المشهد المتمثل بالاقتحام والتنكيل والضرب، ومن ثم اعتدنا على طريق المحاكم العسكرية الإسرائيلية قبل أن نعرف لرياض الأطفال طريقاً، وترددنا على السجون وحفظنا أسماءها قبل أن نعرف مدارسنا ونحفظ أسماء، وجلسنا على شبك الزيارة قبل أن نجلس على مقاعد الدراسة، وتعلمنا حروف السجن وحفظنا مفردات الاعتقال قبل أن ننطق حروف اللغة العربية وكلماتها، فأي مستقبل لطفولة كهذه يمكن أن تكون خارج نطاق الأسرى وقضاياهم العادلة ؟.

ان ذاك المشهد الليلي المؤلم والثابت في ذاكرتي، وتلك الأحداث المتعاقبة والمريرة لأفراد اسرتي جعلتني أتعلم أبجديات الاحتلال، وأحفظ مفردات الاعتقال وحروف السجن وأسماء السجون ومواقعها الجغرافية، واستمر هذا الحال لأكثر من خمسة عشر عاما متواصلة، تنقلت في أثنائها من سجن لآخر، والتقيت خلالها على شبك الزيارة برفاق الدرب وفدائيي سنوات النار وتعرفت فيها على رموز الرعيل الأول ومؤسسي الحركة الأسيرة، فتعلمت منهم الثورة ومن أبي الصمود والنضال، ومن أمي الصبر والثبات، إلى أن كبرت واندفعت مبكرا في مقاومة الاحتلال، فتذوقت مرارة السجن بجسدي، بعدما رأيته على جسد أبي ومن ثم على جسد أخي وأقربائي وفي عيون أمي وأخواتي.

فكبرت وكبرت بداخلي قضية الأسرى، قبل أن أكبر وأتحول أنا الآخر بدوري إلى أسير لأربع مرات، ولست سنوات، ذقت خلالها مرارة السجون وقساوة التعذيب وبشاعة معاملة السجان، وتعلمت اثنائها ما لم اتعلمه خارج السجن، وتعرفت خلالها على أخوة ورفاق وأصدقاء مازلت أعتز بصحبتهم، ولم يحدث لي ذلك فقط، ولم يحدث لأبي فحسب، بل حدث مثل ذلك لأخي الأصغر والوحيد جمال -الذي أنجبته أمي ليبصر النور بعد اعتقال والدي ببضعة شهور- حين اعتُقل وهو في سن الطفولة وكان طالب في الصف العاشر لسنوات خمس متواصلة، قبل أن يتحرر ويُعاد اعتقاله للمرة الثانية ويمضى سنتين إضافيتين. وهو ما زال ملتصقا وبقوة بقضية الأسرى ومدافعا شرساً عنها.  

لقد اعتُقلنا سويا، وفي سجون متباعدة المسافة، ولسنوات طويلة، ولأي من القراء أن يتصور مدى معاناتنا ومعاناة والدينا، ونحن نعلم أننا متجاورون ومتفرقون، في آن واحد: لا نتمكن من الالتقاء!. وبعدما كنا نتنقل برفقة الوالدة، لزيارة الوالد في هذا السجن أو ذاك، أصبحت الوالدة تتنقل بصحبة زوجها (والدنا) لزيارتي في هذا السجن تارة، وزيارة أخي في ذاك السجن تارة أخرى. فالأمور تغيرت وانقلب الحال، فالوالد الأسير أصبح زائراً، والصغار كبروا وأصبحوا أسرى، والسجون بقيت على حالها، والوالدة -أطال الله في عمرها- باتت تحفظ أسماء السجون ومواقعها، فهذا سجن غزة وذاك سجن عسقلان، وهنا أنصار وهناك النقب والرملة وبئر السبع ونفحة. وكانت زائرة دائمة التردد على السجون طوال ربع قرن دون انقطاع.

وصدقاً وبدون مبالغة، كلما سمعت أو كتبت شيئاً عن الأسرى ومعاناتهم وأبنائهم، تذكرت تجربتي الشخصية، وحكاية أسرتي مع السجن، والتي تتشابك مع تجارب وحكايات مئات الآلاف من الفلسطينيين، والتي قد تكون تجربتنا أقل مرارة عشرات المرات من تجارب آخرين كُثر، لهذا تجدني أشعر بالألم، وكلما شعرت بالألم، ازددت إصراراً على المضي قدماً نحو العمل والعطاء من أجل الأسرى وقضاياهم العادلة، فحياتنا يجب أن تُكرس لأجل حريتهم وسعادة أطفالهم، والسعادة لا تتوفر إلا في الحرية، والحرية تُنتزع ولا تُستجدى.

هذه حكايتي وحكاية اسرتي مع السجن الإسرائيلي ومخطئة دولة الاحتلال إن اعتقدت أن تحقيق أمن واستقرار حدودها وسلامة مواطنيها سوف يتأتى عبر اعتقالها للمواطنين العُزل واستهدافها للأطفال الأبرياء. وتُخطئ الظن ان اعتقدت أيضا أن السنين بإمكانها أن تمحو الصورة من ذاكرة أولئك الأطفال الذين مرّوا بتجربة الاعتقال والسجن، أو من أذهان أولئك الذين عانوا من تداعيات اعتقال أحد الوالدين أو كليهما، وأن تلك الممارسات تعزز مشاعر الغضب لدى الأطفال وتدفعهم نحو الانتقام من المحتل وليس العكس. حيث أنها لم تنجح في استئصال روح المقاومة لدى شعبنا في مواجهة احتلالها، ولم تستطع القضاء على كره الأطفال لها، ولن تكون قادرة على الحفاظ على أمنها من خطر ما بعد بلوغهم.

ان جوهر الصراع يكمن في الاحتلال الإسرائيلي، وأن الاعتقالات لا يمكن أن توقف مسيرة شعب يقاوم من أجل انتزاع حريته والعيش بكرامة، فلا يمكن للفلسطيني أن يكون مسالماً مالم يكن حراً. إذ لا حياة مع الاحتلال ولا حرية في ظل الاحتلال. فليرحل الاحتلال عن أرضنا ولينعم شعبنا بالحرية والكرامة، وليعم السلام العادل والشامل في المنطقة.