رسائل الاحتلال وراء اعادة الأحكام..!

 

بقلم/ عبد الناصر عوني فروانة

رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى

25-2-2017

 

    لقد آثرتُ أن يُبرزَ عنوان مداخلتي هذه ما تحمله رسائل الاحتلال من وراء إعادة الأحكام السابقة بحق محرري صفقة تبادل الأسرى هذه، التي أطلق عليها الفلسطينيون اسم (صفقة وفاء الأحرار)، ذلك أن مضامين الرسائل قاسية، وتأثيراتها مؤلمة، وعلينا أن نُبحر في تفاصيلها ونتعمق في معانيها وأبعادها.

 

    من المؤكد أن كلنا يجهل بنود الصفقة التي لم يُنشر سوى العام منها، ولم يَطلع أي منا على تفاصيل الاتفاق المبرم الذي بقىّ حبيس الأدراج لدى دائرة ضيقة من الأطراف المعنية، وكثيرة هي المرات التي طُولبت فيها حركة حماس بنشر بنود الاتفاق كاملة.!

 

    ومع ذلك، وبغض النظر ان كان اعادة اعتقال محرري الصفقة، وفرض الأحكام السابقة عليهم، يشكل انتهاكا صارخا لبنود الاتفاق، وفقا للرواية الفلسطينية. أم بسبب جهلهم لنصوص الاتفاق وخرقهم لشروط الإفراج حسبما تدعي سلطات الاحتلال، أم بسبب ثغرات شابت الاتفاق فأحدثت خللا أضعف قوته؟. فإن من المؤكد ان دولة الاحتلال لم تلتزم يوما بالاتفاقيات الموقعة، وكثيرا ما نكثت وعودها والتزاماتها تجاه الآخر، فلسطينيا كان، أم عربيا ودوليا.

 

ان صفقة التبادل هذه، هي ليست الأولى في تاريخ المقاومة. كما وأنها ليست المرة الأولى التي يؤسر فيها جندي اسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. فالتاريخ الفلسطيني حافل بصفقات التبادل، ومحاولات أسر الجنود والمستوطنين داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة كثيرة، لكنها هي المرة الأولى التي تكلل بالنجاح وتقود الى صفقة تبادل مشرفة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، شكّلت سابقة نوعية، وانتصارا فلسطينيا ومفخرة لكل الأمة.

 

    لهذا فان المتابع للأحداث يلحظ بانه ومنذ أن تمت المرحلة الأولى من تلك الصفقة في 18 تشرين أول/أكتوبر2011، بدأ سيناريو استهداف المحررين والتحريض ضدهم، من قبل الاحتلال وأجهزته ومستوطنيه، وأطلقت دعوات عديدة، إما لإعادة اعتقالهم أو لقتلهم، وأن بعضاً من المؤسسات الإسرائيلية نشرت صورا لعشرات المحررين منهم ورصّدت مكافآت لمن ينجح في تصفيتهم واغتيالهم.

    وبعد شهور محدودة بدأ تنفيذ مسلسل استهدافهم (ذكورا واناثا) بإعادة اعتقال البعض منهم، والزج بهم في ظلمة السجون، ومن ثم جرى ابعاد أربعة منهم الى قطاع غزة، وقد اشتد الاستهداف وتصاعدت حملة الاعتقالات بشكل كبير بعد حادثة اختفاء المستوطنين الثلاثة في الخليل أواسط العام 2014.

 

   "نائل البرغوثي" هو ليس المحرر الأول الذي أعيد اعتقاله وزُج به في السجن وفرض عليه اكمال حكمه السابق، فالمستهدف هنا ليس شخص "نائل"، أو عدد أشخاص معنيون تجاوزوا الخمسين أسيراً أعيدت لهم الأحكام السابقة، من أصل ما يزيد عن ثمانين شخصاً أعيد اعتقالهم بعد أن تحرروا في تلك الصفقة، وانما كل من تحرر ضمن الصفقة هو هدف للاحتلال، ولربما ينتقل السلوك الاسرائيلي في مرحلة متقدمة من "اعادة الاعتقال وفرض الأحكام السابقة" الى "التصفية والاغتيال". الأمر الذي يشكل خطرا حقيقياً على الطلقاء من أمثالهم. لكن بتقديري فان المستهدف الرئيسي، ليس المحررين وحدهم، وليس حركة حماس فحسب، وانما الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة.

 

    ان مجمل قرارات المحاكم العسكرية الإسرائيلية التي أعيد بموجبها الأحكام السابقة، هي بجوهرها قرارات تعسفية وانتقامية وعنصرية بامتياز، وتشكل انعكاسا للفهم الإسرائيلي في التعاطي مع الموضوع، وانسجاما مع قرارات وتوجيهات المستويين السياسي والأمني، بهدف بث الرعب والخوف والاحباط واليأس لدى كافة مكونات الشعب الفلسطيني، ليس هذا فحسب وانما لغرض التأثير السلبي على توجهاته المستقبلية واقناعه بعدم جدوى هذا الخيار، ودفعه نحو التعبير عن نفوره ورفضه للجوء البعض لخيار القوة المتمثل بأسر الجنود والمستوطنين الإسرائيليين من أجل تحرير الأسرى الفلسطينيين ذوي الأحكام العالية ورموز المقاومة الذين لا فرصة لهم بالتحرر، في ظل التعنت الإسرائيلي، إلا في اطار صفقات التبادل.

 

    ان تجربتنا مع دولة الاحتلال على مدار السنوات الماضية تؤكد على أنها ماضية في اجراءاتها القمعية وانتهاكاتها الجسيمة وجرائمها الفظيعة وارهابها المنظم، ليس تجاه من لجأ الى خيار القوة في تحرير الأسرى، وإنما تجاه شعب بأكمله،  فهذا ما حصل عقب عملية أسر (شاليط) في يونيو/حزيران 2006، حيث شنت قوات الاحتلال حرباً مسعورة على قطاع غزة، قتلت وأصابت الآلاف من المواطنين وهدمت مئات البيوت ودمرت البنية التحتية بالكامل، والأمر ذاته حصل عقب اعلان منظمة حزب الله اللبنانية عن أسر اثنين من الجنود الإسرائيليين هما: (أيهود غولدفاسير وإلداد ريجيف) وذلك في يوليو/تموز من العام ذاته.

 

    وبعد كل عملية أسر أو محاولة أسر يقوم بها الفلسطينيون نلحظ ذلك، ففي منتصف العام 2014 وفي أعقاب حادثة اختفاء المستوطنين الثلاثة شنت قوات الاحتلال حملة واسعة من الدمار والقتل والاعتقالات التي طالت العشرات من محرري صفقة التبادل "وفاء الأحرار". وخلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة في صيف عام 2014 كان الدمار الهستيري لحي الشجاعية شرق مدينة غزة عقب الاعلان عن أسر (شاؤول أرون)، والحال كذلك كان في رفح يوم أن أعلن عن فقدان الجندي (هدار غولدن). انها العقلية الإسرائيلية ذاتها، في كل الأوقات والأزمنة، وهي التي تحمل ذات الرسالة في كل الأحداث المتشابهة.

 

    ان حدود أهداف دولة الاحتلال لا تقف عند هذا الحد، وانما تمتد الى السعي نحو تيئيس ذات العناصر المقاومة واستئصال خيار القوة من ثقافتهم، وبث الاحباط الى نفوسهم، خاصة بعد اقرارها لقانون منع العفو 2014، وكأن لسان حالها يقول: اياكم وتكرار صفقة (شاليط)، فان فاتورة الحساب لن تغلق، وان لا حصانة لمن خرج من السجن رغما عنا، في محاولة منها  للضغط على حركة حماس لتغيير مواقفها وتليين شروطها فيما يتعلق بما لديها من اوراق يمكن ان تقود لصفقة تبادل جديدة. 

 

    هذا بالإضافة الى محاولاتها الجادة لشرعنة الابعاد وتثبيته، فهي تحاول ان تظهر وكأن الأفضلية باتت لمن أبعدوا الى غزة أو إلى خارج حدود الوطن، وبالتالي فان أكثر من مئتي شخص ممن أبعدوا في اطار الصفقة سيرفضون العودة الى ديارهم في الضفة والقدس، فيما لو التزمت اسرائيل بما  ورد في بنود الاتفاق وسمحت لهم بالعودة الى ديارهم، وذلك تجنباً للاعتقال واعادة الأحكام، وربما هذا سيشجع من أعيد اعتقالهم للمطالبة بالرحيل الى غزة. كما والحال هذا سيدفع غيرهم، ولربما جميع الفلسطينيين الى القبول بالإبعاد في أية صفقة تبادل قادمة، ليس كإبعاد اضطراري، أو إبعاد مفروض من قبل سلطات الاحتلال، وانما كمطلب فلسطيني ومرغوب للأسرى والمحررين وعائلاتهم وفصائلهم. على اعتبار أن غزة ستؤمن لهم الحرية وستحميهم من الاعتقال مجددا.

 

    ان اعادة الحكم السابق بحق "نائل البرغوثي" الذي أمضى ما مجموعه ستة وثلاثين عاما ونصف في سجون الاحتلال، يجب ان يقودنا إلى اعادة فتح ملف اعادة اعتقال محرري صفقة (وفاء الأحرار)، ويجب ان يدفعنا كفلسطينيين ويدفع الوسيط المصري إلى التحرك الجاد والفعل المستمر بما يكفل ابقائه حاضرا ويضمن الافراج عنهم، اذ لا يجوز الصمت أمام استمرار اعتقالهم، ومن غير المقبول أن يدفع هؤلاء الأشخاص الثمن مرتين، وحيث لا يوجد مسوغا قانونيا في العالم يُجيز اعتقال الشخص ومحاكمته على ذات الفعل (التهمة) مرتين.

 

     وهنا لا يسعنا إلا أن نثمن موقف حركة حماس من القضية، ونشيد بإصرار "كتائب القسام" على التمسك بالإفراج عن هؤلاء كشرط لبدء مفاوضات قادمة حول ما بحوزتها من أوراق تمكنها من اتمام صفقة تبادل جديدة، مع ضرورة استخلاص العبر والدروس مما سبق. ويقولون متى هو. قل عسى أن يكون قريبا.

 

وفي الختام نقول: إذا كان من الطبيعي أن يفرح الشعب الفلسطيني بالإفراج عن أسراه من خلال التسوية والمفاوضات وبدون قطرة دم، فإنه من غير الطبيعي أن تخشى إسرائيل الإفراج عن الأسرى إلا بعد أسر جنود ومستوطنين. لذا فأن السلوك الاسرائيلي في التعامل مع قضية الأسرى هو من يدفع بعض الفلسطينيين نحو اللجوء الى ما يرونه خيارا ناجعا، دللت التجربة على جدواه، ألا وهو أسر الجنود والمستوطنين الإسرائيليين، لمبادلتهم بالأبناء والآباء والأمهات وراء القضبان، بعد سنوات طويلة من مفاوضات سياسية متعثرة، وشروط إسرائيلية مجحفة وانتهاكات جسيمة، في ظل استمرار الاعتقالات اليومية واحتجاز الآلاف من الفلسطينيين في سجون الاحتلال، ذكورا واناثا، صغارا وكبارا، بعضهم محتجزا منذ عقد أو عقدين، بل ومنذ ما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمن.!