الأسرى يهربون "النطف" لكي تُنجب نساؤهم أطفالا

 

بقلم/عبد الناصر عوني فروانة

عضو المجلس الوطني الفلسطيني

20-11-2019

 

تهريب النطف وزراعة الأنابيب فكرة كانت قد نوقشت بخجل وبصوت باهت أوائل التسعينيات من القرن الماضي بين أوساط مجموعة صغيرة من الأسرى ذوي الأحكام العالية، ولاقت حينها قبولا لدى بعض الزوجات، لتعكس المعاناة الصامتة للأسرى وزوجاتهم، وفي ذات الوقت رغبة الأسرى الجامحة واصرارهم في تحدي السجان وانتزاع الحقوق وتحقيق حلم الإنجاب رغم السجن.

لم تغب الفكرة عن اذهان الأسرى ولم تسقط من حساباتهم، وظلت حاضرة على أجندة فعلهم، مؤجلة التحقق لحين اتساع دائرة القبول وتوفر الظروف المناسبة وعوامل النجاح الممكنة، وبعد بضع سنوات تجرأ عدد من الأسرى على ترجمتها، وتمكنوا بالفعل من تهريب "نطف منوية"، وبالرغم من سريتها ومحدوديتها، إلّا أنها عكست ما يدور في وجدان الأسرى وزوجاتهم.

 

إن فشل المحاولات السابقة وعدم نجاحها لم تُحبط الآخرين ولم تصادر حلمهم، بل بالعكس منحتهم جرعات جديدة من التحدي والإصرار على مواصلة الطريق نحو تحقيق الانتصار المأمول، وحلم الانجاب المشروع رغم صعوبة الظروف وتعدد المعيقات، وبالفعل كان لهم ما أرادوا، حين زرع الأسير الفلسطيني "عمار الزبن" طفله في ظلمة السجن وبذات الطريقة رغم حكم المؤبد، ليبصر "مهند" النور في رحاب الحرية بين أهله وأسرته ويسجل بذلك الانتصار الأول، وذلك في آب/أغسطس عام 2012. هذا الانتصار أسس لمرحلة جديدة نحو تعميم التجربة والانتقال من الانتصار الفردي إلى الانتصارات الجماعية، وشكّل انطلاقة نوعية نحو معركة علنية ومسيرة مظفرة من أجل انتزاع حق سلبته إدارة السجون الإسرائيلية، وأقرته المواثيق الدولية وكفلته الشريعة الإسلامية.

 

   نجاح هو الأول بعد محاولات كثيرة، و تلاه عشرات النجاحات المتكررة التي أُنجب في سياقها قرابة ثمانين طفلا بذات الطريقة المعقدة. ولم يُسجِل تلك النجاحات أسرى ينتمون لهذا التنظيم دون غيرهم، أو يقبعون في سجن واحد، أو أسرى ينحدرون من  منطقة جغرافية بعينها، وإنما تعددت الأسماء والانتماءات ومناطق السكن، وغدت ظاهرة لافتة عمت السجون وأربكت السجان، وأصبحت جزءاً من المواجهة المستمرة مع الاحتلال وثورة من أجل الحياة والوجود.

 

لقد عبرت تلك الظاهرة عن هم إنساني عميق ورغبة جامحة في تحدي السجان ومواجهة سياسة الطمس الإنساني، والتدمير الوجداني، الذي تمارسه سلطات الاحتلال بحق الأسرى. فليس أقسى على الاحتلال من هذا التكاثر الفلسطيني، ومن استمرارية الحياة رغم تشديد الخناق المفروض على الأسرى. لذا لم يرق لسلطات الاحتلال هذا العمل، الذي يُنظر له فلسطينياً على أنه انتصار، وأرادت إحباط الفكرة والقضاء على الظاهرة، فاتخذت إجراءات عقابية، فردية وجماعية، بحق الأسرى داخل السجون، فيما الأخطر اتخاذها إجراءات تعسفية وخطوات عنصرية وغير أخلاقية بحق الزوجات والأطفال المولودين من نطف مهربة لأسرى فلسطينيين. ومع ذلك فالتحدي قائم والمعركة مستمرة والظاهرة تتسع والانتصارات تتكرر.

 

لقد أدرك الأسرى وبوعي كبير أن الحياة –حتى داخل السجون- يجب أن تستمر رغم السجن وحكم المؤبد، لذا تراهم يتعالون على قيدهم وألمهم، ويحاولون تناسي ما بهم من وخز القيد، وهموم التعذيب، وصقيع البرد، وقسوة السجان، ويفكرون دوما بابتداع أسباب للفرح. ويدركون كذلك أن إسعاد النفس وانشراح الصدر لا يتأتى إلا بتحقيق الثبات والمواجهة، والتحدي والانتصار على من يسلب حريتهم ويقيد حركتهم وينكل بهم ويحرمهم من أبسط حقوقهم الإنسانية. فتراهم يفكرون ويبدعون من أجل تحقيق الثبات وراحة الضمير، ويناضلون لانتزاع الانتصارات على سجانيهم، ومع كل انتصار جديد يفرحون ويتلقون جرعات جديدة من السعادة. هذا حالهم وتلك هي حياتهم. وخلال مسيرتهم الطويلة حققوا الكثير من الانتصارات وانتزعوا العديد من الحقوق، وتهريب النطف المنوية هي واحدة من المعارك التي خاضها الأسرى وحققوا فيها الانتصار رغم جدران السجن الشاهقة، وعيون السجان الحاقدة، والاجراءات الأمنية المشددة، وكاميرات المراقبة المعقدة.

 

فخلف القضـبان رجالُ يتحدون السجان، ويعانقون الحياة التي ناضلوا من أجلها، ويهربون النطف المنوية لكي تنجب نساؤهم أطفالاً لهم، يحملون أسماءهم، من بعدهم، ويقاتلون لأجل حياة أفضل.