اعترافات فلسطيني لم ينجلط !

*بقلم / د.عدنان جابر

3 تموز 2007

 أكتب كفلسطيني مقهور، أسير سابق ومبعد، لم أستشهد بعد، ولم أنجلط بعد.

.. رأيتُ نكبة غزة أقسى من نكبة بغداد !

 هل يمكن القول أن حجم الخيبة يتناسب طردياً مع حجم الرمزية، حجم المثال، وحجم الأمل؟ القضية الفلسطينية هي القضية المركزية.. خيبتنا كبيرة .

ماذا نقول للمناضلين العرب الذين ناضلوا مع المقاومة الفلسطينية ؟

.. أين تذهب يا أبو ليلى، لا عراقك بخير، ولا فلسطينك بخير!

 ماذا نقول لـ" الأجانب " و" الغرباء " مناصري القضية الفلسطينية في شتى أنحاء العالم، لكل شاب وكل صبية تلف على جيدها " الحطة" الفلسطينية ؟! هؤلاء الذين حتى وإن لم نذهب إليهم، يأتون إلينا: من هم الأجانب والغرباء، هم أم نحن ؟!

شكراً لك يا " بلعين "، شكراً لك من أسبوع.. لأسبوع، ما زال في الدنيا خير، وما زال لنا وطن.. له  جذور، وله فم مدمّى يقول: لا !

لكن ماذا نقول لأنفسنا، لشعبنا، لضمائرنا في المساء قبل أن ننام، لوجوهنا في الصباح أمام المرآة، هل نغسل وجوهنا أم نحطم المرآة ؟!

 .. رأيتُ نكبة غزة أقسى من نكبة بغداد !

  فرحٌ تافه وزغاريد متخلفة من جمهور فصائلي.. انتصرتم على إسرائيل !

صلاة المقنَّعين أمام مقر الأمن الوقائي وصلت خالد مشعل.. لم تصل إلى السماء !

  من يعرف بغداد والعراق وحضارة بلاد الرافدين أصابه القهر من نهب المتحف الوطني في بغداد على أيدي لصوص كبار وخبراء في علم الآثار، المتحف الوطني العراقي هو الرمز الذي يكثف قيمة العراق.. ونكبة العراق. ومن يعرف غزة والمقاومة وتاريخ النضال الفلسطيني ومكانة الشهداء أصابه القهر من تحطيم تمثال الجندي المجهول، رمز وطن سليب، دم معلوم، ونصر مجهول!

 تقمصتني خلال نكبة الاقتتال الفلسطيني في غزة ومشاهدة الفضائيات، الحالة التالية:

كلما شاهدت مواطناً تم إيقافه في أحد شوارع غزة وسؤاله عن هويته ليس من قبل جندي إسرائيلي (غير مُقنَّع!) بل من "فلسطيني مُقنَّع"، كلما تحدثوا عن جرحى في المستشفيات تم اقتحامهم "من قبل مسلحين"، أو أطباء يناشدون التدخل، كلما تحدثوا عن مواطن فلسطيني (فلسطيني من "تنظيم فلسطين"، لا من حماس ولا من فتح ولا من كل التنظيمات !) أصيب في مسيرة تحتج على الاقتتال أو تم إحراق بيته أو قتله، كلما تحدثوا عن أخ أو مناضل أو أسير سابق تم قتله على يد أخيه وتم التمثيل بجثته، أو شخص تم رميه من أحد الأبراج...، تخيلت أنني أنا هذا المواطن، أحد الجرحى، أحد هؤلاء الأطباء، أنا القتيل، والممثَّل بجثتي، والمرمي من الأعلى !!!

حالة تقمص فقط. فوجودي في الغربة جعلني محظوظاً فلم يحدث لي شيء من كل ما سبق، ولم يتم قتلي على يد "الأخوة الأعداء"، الذين أخذوا (بدون إذن!) إجازة من القتال ضد العدو واقتتلوا على أرض الوطن، الوطن الذي نعشقه ونناضل من أجل "حق العودة" إليه!

الوجود في الغربة ينقذ من القتل على أرض الوطن، يا للسخرية!

لكننا في الغربة نموت مرات عديدة، بأسباب عديدة ومن جهات عديدة، نموت كل يوم، أمام كل حدث، أمام كل ظلم وكل إهانة، أمام كل نشرة أخبار وكل برنامج تلفزيوني، أمام كل فاكهة ليست من الوطن، أمام كل طفل يرسم فلسطين ويتمنى العيش على أرضها، وأمام كل "ختيار" يتمنى الموت فيها!

  يؤرقني ويعذبني سؤال: لماذا ؟!

أين جاذبية فلسطين، لماذا بهتت قضيتها، وتبخرت قداستها ؟

لماذا جعلنا الوطن تعيساً.. وقميئاً.. ومنكوباً إلى هذا الحد؟ من أين جئنا بكل هذا التخلف ؟!

فلسطين المنكوبة بالصهيونية، والإمبريالية، وظلم بعض العرب، أصبحت منكوبة بأهلها!

الجنون.. والموت بالغلط !

عندما كنت أسيراً لدى الصهاينة ( وليس لدى غيرهم، الحمد لله!) لم أخشَ سوى شيء واحد: الجنون. فما نفعي إذا ذهب عقلي. في هذه الدنيا الواسعة الضيقة، دنيا العجب العجاب، بالكاد ينجح من له عقل، فما بالكم إن كان بلا عقل.

الحمد لله: خرجت من السجن وأنا عقل سليم.. في جسم غير سليم!

خارج السجن صرت أخشى شيئاً آخر هو: الموت بالغلط. إنني من المؤمنين بأنه مثلما هنالك حياة سخيفة، هنالك أيضاً موت سخيف. عيشة عن عيشة تفرق، وموت عن موت يفرق !!

صرت أغبط نفسي، وقلتها للكثيرين، وكنت أشعر بأن الأمر سيكون فظيعا ًوسخيفاً لو كان غير ذلك: أحمد الله، أن الإصابة في فمي ورقبتي وقدمي هي من رصاص الصهاينة الأعداء وليس من رصاص "الأخوة الأعداء".. التعساء !

أمنية.. فقط !

يا ربُّ !

لنا أمنيةٌ واحدةٌ.. فقط !

بعدَ أن لم يُمتنا الرصاصُ

لم يُمتنا السجنُ

لم يُمتنا المنفى

لم يُمتنا التشردُ والقهرُ

لنا أمنيةٌ واحدةٌ.. فقط

لا تُمِتنا بالغلط ! 

مصيبتنا في قيادتنا !

      كنت مؤمناً وما زلت، بأن مصيبة الشعب الفلسطيني تكمن في " قياداته " و" قادته " الذين لهم مستوى لا يتناسب مع مستوى آلام وآمال الشعب الفلسطيني، لا يمتلكون لياقة عقلية، ثقافية، فكرية سياسية، وتربوية قيمية لإدارة صراع مرير متعدد الوجوه مع عدو شرس مسنود عالمياً، ولدينا  "قيادات" و"قادة" لا يستحقون هذا اللقب لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى القدوة والمثال، ولا يمتلكون لياقة وطنية إنسانية تتيح لهم إقامة جسور متينة مع شعبهم الفلسطيني تقوم على معرفته، واحترامه، وتنظيم وتفعيل طاقاته في أربع رياح الأرض، كي نجاري الحركة الصهيونية ونتفوق عليها في الصراع بين السؤالين ـ التطلبين ـ النقيضين: ماذا فعلت وتفعل أيها اليهودي إزاء إسرائيل؟، يقابله: ماذا قدمت وتقدم أيها الفلسطيني (قبل العربي والمسلم) إلى فلسطين، أرضاً وشعباً وقضية ومؤسسات؟

هناك بديهيات منطقية عديدة لم يتم احترامها حتى الآن في الممارسة الفلسطينية، منها:

1-      مواصفات القائد أو الزعيم السياسي ليست مواصفات المختار أو زعيم العصابة.

2-      الزعماء أو الأمناء العامون ليسوا آلهة بل بشر، وليسوا خالدين بل ميتين.

3-      المياه الداخلية لأي منظمة، حزب، جبهة، حركة، أو فصيل إن لم يكن فيها حراك وتجديد، ستتحول إلى مستنقع!

لهذا نسير نحن الفلسطينيين حتى الآن من سيء إلى أسوأ، ليس فقط على صعيد ما يفعله العدو بنا أرضاً وشعباً، بل على صعيد ساحتنا الفلسطينية وما نفعله بأنفسنا: من فساد وإفساد طال واستطال، من إضاعة أموال وإضاعة وقت وإضاعة جاذبية في ظل قيادة فتح ، إلى تنفير وتكفير وإجرام في ظل قيادة حماس التي أصابها هوس السلطة والتسلط ، رأت فتح ولم تر الشعب، أظهرت أسلحة وشراسة على المناضلين والمواطنين والمقرات والرموز الفلسطينية لم تظهرها على جيش الاحتلال والمستوطنات والرموز الصهيونية!

شاليط... يا شاليط !

أسرى .. يا أسرى !

تم أسر جلعاد شاليط، وأغاظتنا  " ازدواجية المعايير" عندما تم الاهتمام به كثيراً بينما لم يتم الاهتمام بعشرة آلاف أسير فلسطيني وعربي.

شاليط.. يا شاليط، كيف كان شعورك عندما طالبوا بمبادلتك، وأنت فرد واحد، مقابل عشرة آلاف أسير منا ؟  شاليط.. يا شاليط، ما هو شعورك الآن، كم ترانا وأنت ترى "أعداءك" يتقاتلون ؟!

 أكثر من يحزنني عند حصول اقتتال فلسطيني هم الأمهات الفلسطينيات والأسرى الفلسطينيون. الأمهات الفلسطينيات هن الأكثر معاناة ومكابدة، في البيت، في تربية الأولاد، في تدبير العيش، وفي الركض والمطاردة وراء أبنائهن وبناتهن الأسرى. وعندما يأتوا لأم فلسطينية بابنها لا شهيداً قتله العدو، بل قتيلاً  قتله  فلسطيني، ماذا سيكون شعورها، ألهذا ولدته وربته وهيئته؟ ماذا ستقول عند زيارة "المقبرة" يوم العيد، وبماذا ستتوجه  إلى السماء؟

والأسرى الذين يعانون ويضيئون حد الاحتراق والشهادة، الذين يموتون كل يوم، وهم شهداء من نوع خاص، الذين يقارعون السجان ووحشة السجن بالإيمان.. والأمل.. والخيال، كيف ستكون معنوياتهم مع الاقتتال الداخلي، وتهدم البيت الفلسطيني؟!

أسرى.. يا أسرى، لا تحسدونا على "حريتنا"، لسنا أحراراً، لم يعد الأسرى عشرة آلاف فقط، الشعب كله وقع أسيراً، صرنا(ومعنا أشقاء عرباً وأصدقاء عالميين) رهائن القهر والشعور بالتعاسة وخيبة الأمل، خذلتنا الفصائل.. خذلتنا القيادات التي لا تَنتصُر، ولا تَسُر !

الاقتتال يقتل المعنويات!

      رغم ما يُسْبَغُ على الأسير من بطولة ورمزية، فإنه في النهاية إنسان له مشاعر وأحاسيس، انفعالات وعواطف، قابل للفرح والترح، للتشاؤم والتفاؤل، للانتعاش والهمود، ولديه وضع معنوي قابل للارتفاع إلى السماء والهبوط إلى الحضيض، حسب الأجواء والأسباب والمؤثرات.

ورغم الإنحباس الجسدي للأسرى وراء القضبان، إلا أن ذلك لا يعني أنهم معزولون عن العالم عزلاً نهائياً وكلياً، أو أنهم لا يسمعون ولا يقرأون الأخبار ولا يدرون ما يجرى في الخارج، أو لا يعرفون ما يحدث لأمتهم وشعبهم وثورتهم وفصائلهم.

إن الوضعية الخاصة للأسير، تجعل معنوياته تتصف بحساسية خاصة، فالأسير يمكن أن يفرح كطفل، ويمكن أن يحزن كمن مات جميع أهله !!

هناك أحداث وصور وحالات تكون فيها معنويات الأسير مرتفعة.. محلقة.. منتعشة، مثل فراشات بيضاء.. مثل قوس قزح.. مثل شعاع شمس صباحية يقول: صباح الخير أيتها العصافير.. أيتها الحياة، أو مثل صوت فيروز مع قهوة الصباح يقول لنا: صباح الخير أيها الإنسان، كيفكْ إنتَ.. أو مثل شيء لا يمكن رسمه بالكلمات !

وهناك أحداث وصور وحالات أخرى تكون فيها معنويات الأسير هابطة.. في الحضيض، مثل الزفت.. أو مثل شيء آخر، تعجز الكلمات عن وصفه !

أكثر ما  ينعشنا في السجون الإسرائيلية هي تلك الأجواء التي يسود فيها تفاهم داخلي بين الأسرى، بين الفصائل، بين المناضلين سكان القفص والزنازين، حين نخوض معركة مشتركة ضد إدارة السجن، إضراباً نحقق به مطالبنا أو بعض مطالبنا، أو حين نقيم حفلة مشتركة، نطلق فيها نكات طازجة، نطلق موال عتابا: زهر البنفسج يا ربيع بلادنا!، أو نشبك الأيدي، ونضرب الأرض بقوة، في دبكة حلوة، نُفرح فيها قلوبنا، ونغيظ بها قلب السجان!

وأكثر ما يتعسنا في السجون الإسرائيلية، هي تلك الأجواء الملبدة، القاتمة، التي تسمم البدن والروح، حين تحدث  خلافات ومشاكل داخلية بين الأسرى، بين الفصائل، أو حين نسمع أخبار خلافات ومشاكل حادة وعنيفة بين المناضلين، بين فصائلنا خارج السجن، حينئذ يتضاعف سجننا، ويأسرنا قهران: قهر الصهيوني وقهر تخلفنا، فتحزن قلوبنا، ويرقص قلب السجان، تشفياً !

أوردت صحيفة "هآرتس" (15-6-2007) الخبر التالي:

" قامت مصلحة السجون الإسرائيلية بفصل السجناء الأمنيين من فتح عن أولئك السجناء الأمنيين من حماس، بعد تلقي معلومات استخبارية تفيد بأن عنفاً حزبياً يمكن أن يندلع بين السجناء على ضوء الصدامات الدامية في قطاع غزة التي أدت إلى سيطرة حماس.

وتم فصل 1200 سجين من فتح و 800 سجين من حماس في سجن كتسعوت، وفصل 900سجين حوالي نصفهم من حماس ونصفهم الآخر من فتح في سجن عوفر.

وأرسلت مصلحة السجون تعزيزات عسكرية أمنية إلى سجن كتسعوت وسجن عوفر، على أمل قمع أي حوادث شغب يمكن أن تحدث ".

خبرٌ من أخبار عارنا.. قهرنا !

حين يُظهر الأخوةُ شراسة في الاقتتال مع الأخوة، لا يُظهرونها في القتال مع العدو، عندئذ تَظهرُ مواهب التخلف، وتظهرُ شماتة الأعداء والمفارقة الجارحة: العدو رحيم !

حين مات جمال عبد الناصر!

في سجن عسقلان، حين مات جمال عبد الناصر في 28-9- 1970 شعرنا باليتم وأسَرنا حزنان: حزن من حوادث أيلول في الأردن، وحزن من وفاة زعيم العروبة .

في ذلك اليوم، دارَ مدير السجن المدعو "حيوت" في غرف السجن، وقدم لنا التعازي وقال: شعوراً منا معكم في هذه المناسبة سنمتنع عن بث أغاني أم كلثوم لعدة أيام !

في حرب تشرين (أكتوبر) 1973!

حين اندلعت حرب تشرين (أكتوبر) 1973 وكنا في سجن بئر السبع شعرنا أن هذه الحرب مختلفة، رأينا القلق والعصبية على وجوه السجانين، غمرنا الفرح حين عرفنا أن الجندي المصري حطم خط بارليف، وحين عرفنا أن الجندي السوري قد تقدم وأطل على بحيرة طبريا، وحين قرأنا عن صرخات الجنود الإسرائيليين: "أماه، أريد أن أعيش" !

بعد أيام لاحظنا أن وجوه السجانين تغيرت، عليها انشراح وابتسامة، لم نعرف السبب لأنهم قطعوا عنا الجرائد والراديو. لكن سرعان ما عرفنا أن مجريات الحرب قد تبدلت، وحدثت "ثغرة الدفرسوار" بقيادة شارون، وعمل السادات "عمايله السودا".

في بداية الحرب فرحنا فرحة طارت بنا إلى السماء، وفي نهاية الحرب أصابنا حزن هبط بنا إلى القبر.. ما أصعب الخيبة !

 

ـ نبيذٌ يأتي ـ

نستحق أفراحاً بحجم خيْباتنا

رصيفاً من الأزهار بطول آلامنا

مِثلَنا الربُّ ما خلقْ

نحن لم نشرب نبيذاً

إنما حزناً تَعَتَّقْ !

 

يوم سقط تل الزعتر !

في ذلك الصيف القاسي من عام 1976، في آب الَّلهاب، كنا في سجن بئر السبع، نتابع معركة مخيم تل الزعتر أولاً بأول، معركة ليست كغيرها من المعارك، مخيم ليس كغيره من المخيمات، صار رمزاً للصمود والقهر معاً!

في مساء ذلك اليوم الرهيب، في 12-8-1976 بتنا حزانى، مقهورين، وحيدين مع حزننا وقهرنا، سقط تل الزعتر في لبنان على يد القوات الانعزالية، وارتُكبت مذبحة بحق اللاجئين الفلسطينيين فيه!

حين استشهد باجس أبو عطوان !

في عام 1974، في سجن الخليل، وقفتُ معه على باب غرفة 4 كي نسمع نشرة الأخبار من الإذاعة الإسرائيلية، الإذاعة الوحيدة التي كانت إدارة السجن تسمح لنا بسماعها. وكان الخبر الأول في النشرة: " قتلت قوات جيش الدفاع الإسرائيلي المدعو باجس أبو عطوان...".

أمسكتُ بذراع أبو باجس محاولاً إسناده ومواساته، لكنه ابتسم ابتسامة جميلة وحزينة  وقال:  بكفيه، الله يعطيه العافيه!

كان باجس من المطاردين المطلوبين لقوات الاحتلال، فدائياً بطلاً عاش مطارداً مقاوماً لسنوات في جبال الخليل في منطقة "دورا" قبل أن يستشهد ويسمع والده نبأ استشهاده بأذنيه على باب غرفة 4 في سجن الخليل، والده الذي اعتقلته إسرائيل انتقاماً من ولده، أبو باجس الذي كان يشعرنا بطيبته ومرحه أنه والد لنا في السجن، السجن الذي فتحنا فيه ذلك اليوم بيت عزاء، كان فيه أبو باجس رافع الرأس بمعنويات عالية، أعلى من أسوار السجن وغربان السماء!

أذكر أن الشاعر المبدع الراحل معين بسيسو كتب مسرحية إذاعية عن باجس أبو عطوان، سمعت منها كلمات " لا تنسوا أن تُطعموا بنادقكم ..." .

البنادق التي كتب عنها معين بسيسو هي بنادق القتال.. لا بنادق الاقتتال.

ذلك الزمن كان له نكهة: الفدائي له نكهة، الشهيد له نكهة، الجنازة لها نكهة، وأغنية الثوار له نكهة. كان الفدائي مقاتلاً لا قاتلاً، والشهيد ليس كلمة سهلة، والحلم يسندنا ويمنحنا غذاءً لا تقدمه كل مطاعم المكدونالدز في العالم.

 

 

بيت القصيد.. بيت الفضيحة !

لدى مقاربة نكبة الاقتتال الفلسطيني فإن التفاصيل كثيرة، لذلك نسأل أين بيت القصيد.. أين بيت الفضيحة؟!

عدم توصلنا حتى الآن إلى الوحدة الوطنية الفلسطينية، الفساد، حب المظاهر والاستعراض، الولع بالرتب والألقاب والمناصب ولو كانت فارغة "وعلى خازوق"، ضيق الأفق الإنساني والسياسي، الانشغال بتوزيع الحصص المالية والوظيفية،الاقتتال الداخلي كل ذلك لم يأت من فراع، فلا دخان بلا نار، كل ذلك له سبب رئيسي هو:

لم يكن لدينا، وليس لدينا حتى الآن، تربية وطنية، بل لدينا تربية تنظيمية، فصائلية، حزبية، جبهوية، حركية بالمعنى الضيق الفئوي للكلمة.

تُرى، لو كانت الفصائل الفلسطينية، كلها بلا استثناء، القادة والزعماء والأمناء العامُّون، الكوادر والأعضاء، لو كانت الحياة الداخلية لهذه الفصائل، التثقيف الداخلي، الخطاب الفكري، الخطاب الإعلامي، العلاقات بين الفصائل، والعلاقة مع الشعب لو كان كل ذلك ينطلق من فلسطين، والقضية، والشعب، والشهداء، وأهداف النضال، والإصرار على إزالة الاحتلال، وتحقيق النصر على العدو الصهيوني، هل كان حالنا هذا الحال؟!

البرامج الفكرية والسياسات والشعارات واليافطات لا تكفي وليست مقياساً، فتحت أجمل المقولات والشعارات يمكن أن ترتكب أبشع الممارسات وأفظع الجرائم.

لم يكن انجذابنا إلى فلسطين، القضية، الشعب، الشهداء، والأهداف الوطنية الفلسطينية العامة. ما كان يجذبنا ويشغلنا هو فصائليتنا وفئويتنا، مصالحنا الحزبية والشخصية الضيقة.

كل تنظيم ، وكل زعيم فلسطيني لا ينظر إلى نفسه على أنه جدول يصب في نهر، بل يرى نفسه كل النهر، هو الصحيح وغيره على خطأ. زعماؤنا يتعاملون مع تنظيماتهم على طريقة المخاتير، أو كأن هذه التنظيمات ليست وسائل تنظيمية لتحقيق أهداف وطنية والأعضاء فيها مناضلون يرتبطون بفلسطين، بل تنظيمات هي دكاكين أو ملكية شخصية لهؤلاء "المسائيل" وأعضاء هذه التنظيمات "يشتغلون عند حضراتهم".

وليست المشكلة في تعدد التنظيمات ووجود البرامج الخاصة، بل في عدم التوصل إلى المشترك الوطني بين الجميع على صعيد الرؤيا الإستراتيجية البرنامجية وعلى صعيد الوسائل التكتيكية والتعاطي العملي.

هناك فرق نوعي بين أن تكون مرتبطاً بفلسطين، أو مرتبطاً بالتنظيم، بالزعيم، بالمسؤول، بأمين الصندوق، وبالدول المانحة .

وهناك امتحان أخلاقي كبير في أن تتقن "الطهارة" (طهارة الأعضاء) ولا تتقن طهارة الروح، وطهارة السلاح، خاصة مع أبناء شعبك !

رموز الولاء: الأعلام والأغاني !

يتجلى التخلف الفصائلي الفلسطيني بصور وأشكال ورموز مختلفة،منها: الأعلام والأغاني. ليست هناك مشكلة في أن يكون للتنظيمات الفلسطينية، ومنها فتح وحماس، أعلاماً وأغان خاصة بها، تُرفع وتُطلق في مناسبات معينة.

لكن حين نرى مسيرة ترفع فيها رايات كل الفصائل ولا نرى العلم الفلسطيني، أو نرى غابة من الرايات الفصائلية ويكون علم الوطن نادراً وليس ظاهراً، عندئذ يتقدم الفصيل على الوطن، ويغطي الجزء على الكل وهذا تناقض ومفارقة.

إن أغنية "أنا ابن فتح ما هتفت لغيرها" تساوي في الفصائلية والفئوية أغنية " حمساوي " التي سمعناها من قناة "الأقصى" التابعة لحماس. مثل هذه الأغاني تتصف بالتخلف الفكري والسياسي والإعلامي لا لأنها أغانٍ خاصة، بل لأنها أغانٍ ترتفع فيها النرجسية الحزبية المقيتة ويتراجع فيها حب الوطن، أغانٍ إقصائية تلغي الآخرين، تجعل التنظيم أهم من فلسطين، والنشيد الحزبي أهم من النشيد الوطني.

لقد تزعزعت ثقة المواطن الفلسطيني بالفصائل الفلسطينية منذ سنوات عديدة، ووصل الأمر حد القرف من التنظيمات. أثناء الإقتتال بين حماس وفتح بتنا نألف سماع عبارات من الفلسطينيين من نوع "طز في الاثنين.. الله يلعن الجهتين.. يا عيب الشوم.. فضحتونا" !

 الإقتتال الفلسطيني أدى إلى تضاؤل المشهدية الوطنية الفلسطينية، كأن القضية هي من يحكم ومن يجلس على الكرسي لا مصلحة الشعب ومقاومة الاحتلال، كأن الثورة الفلسطينية هي فتح وحماس فقط، وكأن فلسطين هي الفصائل أو فصيلان فقط، وكأن الفلسطيني هو ابن فتح أو ابن حماس فقط، ومن ليس منهما فهو ليس فلسطينياً !، بل سمعنا أنه في ظل الإقتتال الفلسطيني البشع والمتخلف في غزة (وكل اقتتال بشع ومتخلف) كان يتم التدقيق في الهوية والأسماء والانتماءات كي يتم تحديد التعامل على أساس ذلك.

كأن فلسطين تستدعي زمن الحرب الأهلية اللبنانية والقتل على الهوية. بل ثمة ما هو أخطر وأفظع من ذلك، لأن "أبطال" الإقتتال الفلسطيني قدموا لنا نسخة جديدة من "غوييم" فلسطيني أكثر تخلفاً من النسخة الأصلية لـ "الغوييم"، فهذا الأخير قام بقسمة هي "غير اليهود" مقابل "اليهود"، والاقتتال الفلسطيني ( ربما بلا صياغة أيديولوجية، بل في الممارسة على الأرض، في الشوارع والمؤسسات والجامعات والمقرات والحارات والبيوت وأبراج السكن) قام بقسمة هي " حماس" و "غير حماس"، "فتح" و "غير فتح" !

القضية الفلسطينية المقدسة تم تبهيتها، وفلسطين "شعب الجبارين" تم تقزيمها..على أيدينا!

التنصل والإحالة

من أشكال تخلفنا التنصل والإحالة. لا نعترف بالخطأ، وإذا اعترفنا فبأخطاء الآخرين لا أخطائنا، ونلجأ إلى المكابرة والتبرير والنفاق والكذب، نضع الحق "على الطليان"، على التدخلات والامتدادات والأجندات الإقليمية  والدولية. وننسى تربيتنا، بنيتنا، وعلاقاتنا الداخلية.

من يريد مقاربة ظاهرة اجتماعية سياسية مثل الإقتتال الداخلي والحرب الأهلية وحصر أسبابها بالخارج والآخرين والمؤامرات والمخططات الخارجية فهذا يعني التنصل والتعمية والتضليل، إعفاء الذات والداخل والمقدمات التي تحمل مستوى تطورنا ونشاطنا وصنع أيدينا.

وثمة إحالة فوق سياسية، فوق اجتماعية، وهيولية: الزمن!

رحم الله الأحنف بن قيس. سأله معاوية: " ما الزمان ؟ "، فأجابه: " أنت الزمان، إنْ صَلُحتَ صَلُحَ، وإن فسَدتَ فسَدَ ".

والعمل؟!

 هل انتهينا.. هل ماتت قضيتنا ؟!

لم نمت، رغم أننا نموت عدة مرات ومن عدة جهات. لكن علينا أن نبرهن بالممارسة أنه لا يزال فينا خير، أن نعالج الصدمة المعنوية التي حصلت لنا ولأشقائنا وأصدقائنا، فلسطينياً وعربياً وعالمياً، وعلينا أن ننجح في هذا الامتحان الصعب، امتحان الجدارة والمواصلة:

أن نكون فلسطينيين لا فصائليين !

أن نكون تعدديين ديمقراطيين لا إقصائيين استبداديين !

أن نكون مقاتلين لا قاتلين !

أن نكون صادقين لا زائفين !

أن نكون متدينين لا متخلفين !

شُكراً.. أيتها الطائرة !

في يوم من أيام صيف عام 1975 كنا في باحة سجن نابلس نمارس الفورة (أو التيول بالعبرية)، نصف ساعة تسمح لنا بها إدارة السجن، 30 دقيقة نحرك خلالها أقدامنا ودماءنا ونتطلع قليلاً إلى سماء نناجيها وتناجينا، كي لا نظل طوال الوقت محشورين في غرف ـ أقفاص، نتطلع إلى سقف أصم، نكابد ضيق العيش وضيق الخيال !

كنا في باحة السجن، وكان الوقت "بين العصر والمغرب" كما تقول أغنية سعدون جابر، وهو ليس ابن عمي بل زميل همي، لأن منظر سقوط غزة (عفواً تحريرها!) قد ذكَّرني بمنظر سقوط بغداد (عفواً تحريرها!).

كان الوقت بين العصر والمغرب حين كنا في باحة سجن نابلس حين انطلقت صيحاتنا وانشدت أبصارنا إلى الأعلى، ما هذا؟

منظر لم نشاهده قط طوال سنوات أسرنا، طائرة ورقية كبيرة ملونة ذات ذيل طويل ملون تتهادى في السماء، انقطع الخيط الذي يصلها بيد طفل فلسطيني نابلسي يمارس هوايته المحببة على قمة جبل عيبال، فجاءت طائرته نازلة من قمة الجبل إلى السفح وهبطت على السجن، لتنزل عندنا في الباحة، فرحنا مثل الأطفال ونحن نهتف "هيه.. هيه.. هيه"، وضحكنا كثيراً عندما سمعنا وسط جلبة فرحنا وصياحنا صوت السجان في برج الحراسة في الأعلى ينادي على أحد الحراس في باحة السجن : " امسكها.. فتشها خشية أن تكون حاملة شيئاً ما " !

في ذلك اليوم، عندما أفرحتنا نحن الأسرى تلك الطائرة الورقية الملونة، لم نفرح فرحاً فصائلياً، حزبياً، جبهوياً، حركياً. فرِحْنا فرحاً طفولياً، إنسانياً.

شكراً أيتها الطائرة، شكراً لطفولتنا القديمة التي ربما تكون الوحيدة المنقذة لنا في هذا الزمن الموحش والوحشي، طفولتنا نحن الكبار التي تخشى الآن على طفولة أطفالنا المهددة من أشياء كثيرة، منها صور القتل والمجازر، وصور فضائحنا على الفضائيات التي يتمظهر عليها ناطقون رسميون عابسون، ينذرون ويتوعدون!

عشنا وشفنا، ووصلنا إلى زمن صار فيه العيش في غابة وسط الحيوانات، أكثر أمناً من العيش وسط مقاتلين، يتقاتلون أكثر مما يقاتلون !

رحم الله طاغور الذي قال: " الإنسان أسوأ من الحيوان عندما يكون حيواناً " !

 

 

طفلي يقرأ الكاريكاتير !

كنت في البيت مستلقياً على السرير أقرأ صحيفة "تشرين" السورية، في الجهة المقابلة كان ابني عمر وعمره 4 سنوات، صاح وهو يرى من جهته كاريكاتير في أعلى الصفحة: "بابا بابا، شوف هادا بدّو يطخ إسرائيل آم طخ حالو"..

 تركت ما أقرأ ونظرت إلى الكاريكاتير تحت إلحاحه فشاهدت رسماً لشاب يصوب بندقيته إلى الأمام ولكن وضعية البندقية بالعكس، فوهتها باتجاه صدره، وعلى جبينه شريط مكتوب عليه "غزة"..

ظل طفلي يضحك ويردد: " هادا أهبل، بدو يطخ إسرائيل آم طخ حالو" !!

اعتذار إلى الأزهار!

أعترف بأنني بكيت عدة مرات، كما بكت زوجتي، وبكى كثيرون اعرفهم أمام مشاهد الإقتتال الفلسطيني في غزة. لكن المرة التي بكيت فيها بمرارة بعد أن أصابتني غصة موجعة كانت عندما قرأت على الإنترنت (موقع عرب 48) مقال رشاد أبو شاور الذي يحمل عنوان "العقيد الركن الفنان (أبو علي)" ويتحدث فيه عن ابن عمه وصديقه وزوج شقيقته العقيد الركن نصر عبد الرحمن أبو شاور الذي قتله "مقنعون بالسواد" في غزة.

حزنت على حزن رشاد أبو شاور، حزنت على القتيل وهو يروي تفاصيل عن حياته، لكنني حزنت أكثر وبكيت بحرقة على أم القتيل العجوز التسعينية، التي أخفوا عنها أن قاتل ابنها فلسطيني، كانت تضحك، تزغرد، ثم تنوح، كما على ثوار 1936 :

طلَّت البارودة والسبع ما طل

يا بوز البارودة من الندى مبتل

ضعيف أنا أمام الأمهات. ذكَّرتني أم نصر عبد الرحمن أبو شاور بأمي الراحلة التي أرسلت لي رسالة وأنا أعالج في رومانيا بعد خروجي من الأسر، تقول فيها: "ليتني قطعة شاش أبيض ألتف بها على قدمك يا ولدي الحبيب"، ذكَّرتني بالمرأة الفلسطينية الجبارة أم عمر البرغوثي التي رحلت وهي تلهج باسميْ ولديها الأسيرين "وينك يما يا عمر.. وينك يما يا نائل"، ذكَّرتني بأم الراحل إسماعيل الدبج التي رحلت ولم يتمكن من وداعها وطلب رضاها قبل موتها بسبب "الأشاوس"، ذكَّرتني أم نصر واستحضرت لدي الأم الفلسطينية التي تكافح وتعاني في البيت وخارج البيت، في فلسطين وفي الشتات، على الجسر والمعابر وفي مطارات العالم، تعاني في رعاية وتربية أولادها وهم صغار، وتعاني وأولادها كبار، مشتتون، مناضلون مطاردون، أو أسرى تطارد وراءهم من سجن إلى سجن، تنتظر الفرج لهم وهي تقول: يا رب!، وتشعر بالقهر والخذلان أمام اقتتال الأخوة فتقول: يا عيب الشوم.. حسبي الله ونعم الوكيل!

الأم الفلسطينية تستحق الكثير من الاحترام، ولا يمكن أن نكافئها على كفاحها مهما قدمنا وشعرنا اتجاهها، لكن غباء وإجرام الزعماء الصغار "أبطال" الاقتتال الفلسطيني يقدمون لها طعنة في الصميم!

 كنت أقرأ مقال رشاد أبو شاور، امتزج لدي القهر بالحزن، احتبست غصة في حلقي وشعرت بأنني أختنق. جاءت ابنتي دالية وقالت لي "بابا.. ماما تقول لك الغداء جاهز". لم انهض فوراً بل بعد دقائق، حتى أهدأ قليلاً وأتمكن من تناول الطعام. انضممت إلى زوجتي وطفليَّ. كنت مهموماً، ومقال أبو شاور لا يزال ينغل في رأسي. لم أستطع الأكل، وأحسست بأنني سأبكي، فانسحبت بسرعة كي لا يروا دموعي.

خرجت إلى جنينة البيت. جلست على كرسي مقابل الأزهار، رفعت رأسي إلى السماء في محاولة للتسامي والهروب من الأرض، بقيت الغصة في حلقي. تأملت الأزهار مجدداً ورسيت بنظري على الياسمينة أمامي. لم تفلح الأزهار في طرد غمي الذي استوطن روحي، وانفجرتُ بالبكاء. بكيت على الحال الذي وصلنا إليه، على قسوتنا مع بعضنا، على انحدار قضيتنا، وبهدلة شعبنا، على أسرانا الذين يتضاعف قهرهم، وعلى أمهاتنا الذين خذلتهم الفصائل والزعماء الصغار، بكيت على فلسطين.. ما عندها كبار !

تذكرتُ شيئاً كنت قرأته في علم الجمال، بأن إحساسك بالجمال لا يعتمد فقط على العالم الخارجي، بل وعلى عالمك الداخلي.

أعتذر إليك أيتها الأزهار. جئتك مهموماً، عسى أن ينشرح صدري ويذهب غمي، فبكيت في حضرتك. أعتذر إليك أيتها الأزهار، لم أستطع أن أفرح أمام عبيرك وألوانك، ما عادت الأزهار تسعفني. لستِ المُذْنبة. الذنْبُ ذنبي.

أللعنة على "زعماء" يرون الكرسي.. ولا يرون زيتون البلاد !

* كاتب فلسطيني، أسير سابق ومبعد، يقيم في دمشق.

ajaber@scs-net.org